مسؤولو البنوك المركزية هم في غاية النشاط الآن.. الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يدرس (ويؤجل) قرار تشديد السياسة النقدية. ويفعل بنك إنجلترا الشيء نفسه.. أما بنك الشعب الصيني فقد خفف من سياسته النقدية، ويفكر كل من البنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان بتقديم المزيد من التحفيز. يقال غالبا: إن العالم يعيش وسط حرب بين العملات - وهذا نوع من المبالغة.. الهدف الأساسي من تسهيل السياسة النقدية ليس سرقة الطلب من البلدان الأخرى، وإنما سرقته من المستقبل. فكرة أن البنوك المركزية تعمل على إضعاف عملاتها من أجل أن تستطيع بلدانها تحقيق النمو على حساب الآخرين ليست فكرة جديدة.. الواقع أنها القناة الطبيعية التي تعمل من خلالها السياسة النقدية.. وحين يمر الاقتصاد في حالة صدمة، تحتسب أسواق العملات موقفا أكثر تراخيا في السياسة النقدية المستقبلية. ويعمل سعر الصرف المنخفض للعملة على مساعدة الاقتصاد المحلي على الانتعاش من خلال تعزيز الطلب على صادرات البلد، وتشجيع المستهلكين على التحول من السلع المستوردة إلى السلع التي يتم إنتاجها محليا.. وحين تقتصر الصدمة على الاقتصاد المحلي في بلد معين، فإن حركة سعر الصرف تعني أن جزءا من النقص في الطلب المحلي يتم اقتسامه بصورة واسعة عبر الشركاء التجاريين لذلك البلد - وهذا نوع من تجميع المخاطر، ويعتبر إحدى منافع الانفتاح التجاري. وفي حين أن انخفاض سعر العملة في بلد معين يرجح له أن يعطي البلد ميزة على بلد آخر من حيث النمو، فإنه يصبح لعبة صفرية (أي يربح فيها طرف على حساب خسارة الطرف الآخر)، حين يتعرض الطلب العالمي لصدمة واسعة.. هذه الحقيقة دفعت ببعض الاقتصاديين والمعلقين إلى القول إن البنوك المركزية عالقة الآن في حرب عملات عالمية - أي أن البلدان تتسابق نحو القاع بخصوص أسعار عملاتها.. لكن من يقتنع بهذه الفكرة فإنه يكون قد أساء فهم المشكلة والطريقة التي ينبغي فيها إجراء السياسة النقدية في وجه صدمة الطلب التي تنتشر في أرجاء المعمورة.. ولا توجد كمية محدودة من الإنفاق يمكن اقتسامها بين البنوك المركزية المتنافسة. وبدلا من ذلك، تعمل هذه المؤسسات على تعزيز الطلب العالمي من خلال إحضار الإنفاق المستقبلي إلى الحاضر في كل بلد من بلدانها. أسعار الفائدة العالمية هي الآن أدنى مما كان يمكن أن نتخيله قبل الأزمة المالية لعام 2008، وهذه علامة على التكلفة المتدنية لأموال البنوك المركزية، في الوقت الذي تتراجع فيه أسعار الفائدة على الودائع التي تضعها البنوك لدى البنك المركزي في البلد.. لكن هذا يعد علامة أيضا على تأثير مشتريات الأصول.. جزئيا الهدف من مشتريات الأصول (الذي يعادل طبع الأموال) هو تقديم الغوث للمقترضين الذين ضاقت عليهم سبل الحصول على المال، لكن الهدف الرئيسي هو تحفيز الإنفاق في الوقت الحاضر مقارنة مع الإنفاق في المستقبل. وحيث إن العائد على المدخرات منخفض الآن، فإن تكلفة الفرصة لدى المستهلكين والإنفاق الرأسمالي منخفضة أيضا. هذه سياسة يفوز فيها الجميع، إذ ما هو النقص في الطلب إن لم يكن إفراطا في المدخرات؟ إن سرقة الطلب من المستقبل تعزز الإنفاق والدخول اليوم في الوقت الذي يعود فيه إلى العمل الأشخاص الذين كانوا عاطلين عن العمل.. وكلما كانت سرعة حدوث ذلك كبيرة، ارتفع مجموع المدخرات لدى الناس على مدى أعمارهم، وتحسنت الميزانيات العمومية على الرغم من انخفاض مقدار المدخرات اللازمة لتحقيق ذلك الهدف. وحيث إنه لا تزال هناك فجوة في الاقتصاد العالمي، وآفاق امتصاص تلك الفجوة تتناقص، فليس من قبيل المفاجأة أن سياسة التسهيل النقدي وتأجيل قرارات رفع أسعار الفائدة تحدث على نطاق عالمي. وكون البنوك المركزية تقوم الآن بالتسهيل النقدي (أي تخفيض أسعار الفائدة) أو تأجيل رفع أسعار الفائدة بالتناغم فيما بينها، فلا يعد تهديدا على النحو الذي يظهر عليه.. ومعظم البنوك المركزية هي ببساطة تقوم بتقييم آفاق اقتصاداتها المحلية وتضع السياسة النقدية وفقا لذلك.. وبعض التقلبات في أسعار صرف العملات الأجنبية أمر لا بد منه، لكن لا ينبغي أن نظن أن ذلك هو علامة على افتتان مَرَضي بالعملات.. من جانب آخر، لا ينبغي أن تُتهَم البنوك المركزية بأنها تسرق بعضها بعضا.. كل ما تفعله هذه البنوك هو جزء من جهودها لتعزيز الطلب العالمي.