بينما تستعد المملكة للانتخابات البلدية هذه الأيام كثير من التساؤلات يثار حول مدى استعداد الناخبين للقيام بواجبهم تجاه مدنهم وقراهم باختيار المرشح الكفؤ قياساً بالصلاحيات والأدوار المنوطة بالمجلس بعيداً عن الضغوط الاجتماعية والمصالح الفردية التي شوّهت التجارب السابقة. فرغم مضي أعوام على بدء التجارب الانتخابية بدعم حكومي في عدد من المجالات الرياضية والاقتصادية والبلدية محلياً فإنها لا تزال تبدو كأنها نتوآت غريبة أو مظاهر خارجة عن السياق، وتفتقر للتفاعل الجماهيري إلا فيما يتعلق ببعض المصالح الفردية أو الفئوية الضيقة على حساب الهدف الذي أُقيمت من أجله. وقياساً بما أفرزته انتخابات البلدية في نسختيها السابقتين على الأقل يمكن القول: إن كثيرا من الناخبين الذين دخلوا آلية الاقتراع ربما لم يتحركوا على ضوء قناعات تتعلق بقدرة المرشحين على تطوير العمل البلدي وتحسين جودة المعيشة في المدن والقرى والحارات التي سيمثلوها لهم بحكم الأغلبية. صحيح أن التحليلات التي أعقبت هذه الانتخابات الأكبر في تاريخ المملكة من حيث حجم المشاركة (رغم عدم مشاركة النساء) انصبت على انجراف المشاركين في الاقتراع للتصويت على أسس قبلية، طائفية أو فتاوى أكثر من اهتمام الناخبين بالمصالح البلدية لمناطقهم التي يعيشون فيها. ونتاجاً لتلك الحمّى خرج المنتخبون - كما يرى الكثير من متابعي المشهد المحلي - بمرشحين لا يمتلكون برامج انتخابية أو الحد الأدنى من الفهم في مجالات الإدارة أو الخدمات البلدية أو خدمة المجتمع والعمل العام أو غيرها من المواصفات التي يجب أن تتواجد في مرشح لمنصب بلدي سواءً في المملكة أو في أي مكان من العالم بعد حملات انتخابية من هذا النوع. لكن الواقع أيضاً هو أن تطبيق انتخابات بهذا الحجم في بلد مثل المملكة عميقة المرجعيات، وفي الوقت نفسه لم تعتد ثقافة الانتخابات، ولم تُطبق فيها تجربة واحدة مكتملة من حيث الوعي والتنظيم والتطبيق. ليست مهمة سهلة فنحن أمام محاولة تغيير ثقافة وسلوك مجتمعي راسخة منذ سنوات وهو ما يعني أن الجهود التي يجب أن تبذل لابد أن تفوق تلك التي تبذل في دول أخرى. فبغض النظر عن الحملات التوعوية لحث المصوتين على الإدلاء بأصواتهم وإيضاح طريقة وشروط الانتخاب هناك حاجة إلى حملات تؤكد ثلاثة خطوط رئيسة أولها: حدود صلاحيات أعضاء المجلس البلدي، ثانيها: أهداف المجلس ومسؤلياته، وأخيراً: العلاقة بين المجلس كجهة إشرافية شعبية على العمل البلدي بالأمانات والبلديات جهة تنفيذية مستقلة. فمن غير الإنصاف لوم الناخبين على سلوكهم الانتخابي وهو لا يعلمون بشكل واضح ما هي حدود صلاحيات المجلس وأهدافه ومسؤولياته تجاه المدينة والقرية والبلديات. هذا الفراغ الذي ظهر بصورة جلية في التجربة الانتخابية الأولى ولايزال إلى حد كاف لإفساد العمل الانتخابي أدى إلى تبني الناخبين أهدافا لا تتعلق بالعمل البلدي، وأفرزت مرشحين فشلوا في تحقيق وعودهم غير المنطقية، ثم انتهى المشهد بأن قام بعض المرشحين بتعيين رئيس البلدية رئيساً للمجلس البلدي. إلا أن ما حدث في الانتخابات البلدية ذات المجال الأوسع رغم حداثة التجربة تجاوز - على الاقل - التطبيقات غير المبشرة التي تمت في الغرف التجارية والأندية الرياضية. حيث يتم توظيف المصالح الشخصية المباشرة لضمان الأصوات بصورة تفوق ما يحدث في الدول الرأسمالية التي تلعب فيها المصالح دوراً كبيراً في تدوير الأصوات وتوظيف الأموال. نجاح التجربة الانتخابية سواءً المتعلقة بالمجلس البلدي أو الغرف التجارية أو الأندية مسؤولية وأمانة على عاتق الفرد من جهة، ومن جهة أخرى تُظهر مدى استفادة الشعوب من تجاربها الماضية، لرسم واقع جديد يبشر بمستقبل مشرق للأجيال القادمة بعيداً عن السلوكيات المعلبة التي تستجيب لأهداف ضيقة أثبتت التجارب السابقة أنها لا تُسمن ولا تُغني من جوع.