مع اهتمام الناس بصورة أو مشهد ما يعتقد آخرون بأنهم واقعون تحت تأثير الإعلام الذي يسلّط الضوء على هذا المشهد أو ذاك؛ من أجل قضية خفية. وهو سيقوم بتمرير أجندة سياسية من وراء هذه العواطف المتدفقة دون وعي. فما أن يظهر هذا التعاطف حتى يأتي من يذكّرنا بأن هناك قضايا أخرى قديمة وشبيهة وأخرى معاصرة وهناك مآس عديدة لم ينتبه لها الناس لأن الإعلام لم يسلط الضوء عليها. من ناحية المبدأ فهناك وجاهة في هذا الكلام، لكن هناك أيضا هوسا بفكرة المؤامرة وبتسفيه وعي الناس والتقليل من شأنهم، وإظهارهم أفرادا عاطفيين لا يرون أبعد من أنوفهم. صورة الطفل الغريق كانت مؤلمة حد البكاء، لم يكن مشهدا عاديا أن يقذف البحر طفلا بكامل لباسه دون أن ينزع عنه حتى حذاءه، ودون أن تظهر عليه آثار الغرق من الانتفاخ أو غيره. وإن نظرة الطفل إلى الأرض مسترخيا بجسده لهي كافية في إيقاد الألم. لذلك فمن الظلم أن تظن الناس تتألم عبثا.. والأشد إيلاما هو رؤية مشهد الفيديو وماء البحر يداعب جسده. لم يألف الناس هذا المشهد إلا في حالات الاسترخاء وتأمل الجمال المصحوب باللعب والاستجمام. لكن إيلان الكردي يصدم الذاكرة بصورة أخرى غير مألوفة. كما أنه من غير المعقول أن نعتقد أن الناس بترت الصورة عن سياقها، إنها تستمع لقصص تتلوها قصص عن مهاجرين ركبوا البحر ولم يصلوا، رأوا صورا لتكدس الناس، ولركضهم حين تطأ أرجلهم أرض الشاطئ من الناحية الأخرى.. ورأت جثثا قد عراها البحر من كل ما كانت تملك.. فصورة إيلان ليست إلا قشة قصمت ذاكرة الصور والمشاهد. لا تقلّ صورة الشاحنة التي عثر عليها داخل الحدود النمساوية مأساوية ولا ألما عن صورة إيلان الكردي. مات فيها واحد وسبعون شخصا سوريا -في الغالب- وفي ظني أن كثيرين تخيلوا مشهد الساعة الأخيرة، حين يقل الأوكسجين وتنقطع الأنفاس، حين تعلم أن الهواء موجود دون إمكانية الوصول إليه، حين يكون الحاجز باب ثلاجة الشاحنة وليس قفلا ولا سجانا.. حين يكون سبب الكارثة خطأ في التنسيق أو التوقيت أو تأخير بسيط في الوصول.. لقد ماتوا لأن الباب لم يُفتح. هذا إن صحّ أنهم ماتوا اختناقا فهناك من يشكك في هذه الرواية ليروي مشهدا أكثر ألما ومأساوية فمن المحتمل أنه سُرقت أعضاء هؤلاء مرة بعد مرة وواحدا تلو الآخر حتى تم التخلص منهم في تلك الشاحنة. هذا المشهد ليس هو الأول في سلسلة قصص عبور البحر؛ بحثا ليس عن الفردوس الأرضي وإنما عن حد أدنى من الحياة الحقيقية. وقصة إيلان تلخص جزءا من القصة، والده عاش عدة أشهر في تركيا ما بين حياة المخيمات والعمل بربع أجر العامل التركي، كان يعرف كما يعرف غيره أن هذه الحياة تصلح أن تكون مؤقتة، ولكي يضمن لأسرته وأطفاله حياة أكثر استقرارا كان خيار ركوب البحر هو الأكثر مغامرة وحلما. جمع أربعة آلاف دولار وقرر أن يسير في الطريق الذي لا نستطيع وصفه بالأخطر في مثل حالته، فالله وحده يعلم كم طريقا خطرا كان يتربص به في عين العرب كوباني. في الأيام الماضية دار جدل كبير حول الأرقام المعلنة للدول التي استقبلت اللاجئين السوريين، وتمت المقارنة بين دول وأخرى. وسط هذا الجدل من المهم أن نتذكر أن قضية اللاجئين بمعنى التدفق السكاني من دولة ما بسبب الخوف من الحرب والقتال والدمار أو بسبب الكوارث ليست جديدة على هذه الحياة العصرية. بل هي إحدى إفرازاتها ومشكلاتها الرئيسية. أن يجد المرء نفسه فجأة عالقا بين الدول.. واقفا على الحدود، لأن لديه مشكلة قانونية في شرعية وجوده.. هكذا بكل بساطة. هؤلاء ليسوا مائة ولا ألفا ولا مائة ألف، عددهم تجاوز الخمسين مليون لاجئ في العالم. إنهم في وضع استثنائي لكنه دائم، هذا هو ملخص مأساتهم. إنهم يعيشون حياة قلقة في وقت تستقر فيه المدن وتكبر. شيء غريب أن يصرّ العالم على تجاهل مآسيه التي يتسبب فيها. ونحن لسنا بحديثي عهد على قضية اللجوء ونعلم كم من الممكن أن تلبث هذه القضية الإنسانية، فاللاجئون الفلسطينيون بدأت مأساتهم في 1946 ولم تنته حتى الآن. إن ما نقدمه هنا في المملكه لإخوتنا السوريين وكل ما يمكن تقديمه وعلى مستوى الدول والمجتمعات هو حق وواجب علينا، يمليه علينا الدين والعروبة والجوار. ولا يزال بيد دولنا الكثير لتقدمه لهم.