في السابق ولندرة العيش وقلة الملح كان العيش والملح لهما الأثر العظيم والرمز الأمثل والوحيد في تثبيت قواعد المعاهدات والالتزامات الأدبية والمعنوية وكان عليهما أن يكونا مجتمعين ومتحدين دائما وبهما تتجلى وتظهر صور الوفاء والإخلاص بين البشر. والعيش أوالخبز أوالرغيف كان وجوده نادرا في السابق حيث لايتوفر في أي مكان أو زمان وإن وجد فهو قليل وجوده إلى درجة العدم وكان من لديه عيش ويقاسمك إياه مع مسحوق الملح يكون كمن شاركك حياته كلها ولم لا؟! فالدقيق والملح أعز ما يملك الإنسان في تلك السنوات العجاف التي مرت على العالم وتحديدا العرب، ولم يكن الملح مسحوقا ناعما كما هو الآن بل هو ملح خشن جرش كحبات الحصى الصغيرة ولكن تلك الحبيبات مع الرغيف تؤكل وتشكل بين البشر أقوى معاهدة عدم الاعتداء على الناس بعضها البعض أو حتى بين شخصين لا ثالث لهما وكانت تلك الوجبة "العيش والملح" تفرض التزاما واضحا بين الأطراف تفوق بأهميتها معاهدة الاتفاق النووي الإيراني مع الدول العظمى،، نقول في الزمن الماضي كانت قطعة من الخبز أو العيش مع حبة ملح كافية لإبرام الصفقات والحفاظ على العهود وعدم الخيانة، وكانت أقوى من أي التزامات كتابية توثق أطر العلاقات والصداقات، أما الآن فلا عيش ينفع ولا ملح يطعم،،، تقام الولائم والحفلات وتنحر الجمال والخرفان والأبقار والنعاج ويهدر دم الاف الدواجن إضافة إلى كل أنواع الحلويات وعلى رأسها المعلمة «أم علي» ومع ذلك لايدوم الود ولا يستمر الوفاء والإخلاص أكثر من فترة وجيزة تنهار بعدها كل الاتفاقيات ويتبخر كل شيء،، لماذا ياترى؟! هي تحمل أكثر من معنى لعل ابرزها القناعة التي كانت ترضي جلساء العيش والملح سابقا، والشراهة وحب الذات التي تنسحب وصفا على رواد الموائد والسفر في حاضرنا، وبالطبع إلا من رحم الله، يقال في الماضي ويتداول بين الناس مقولة (بيننا عيش وملح) يعني انتهى وكفى وهذا وعد لا يخل به إلا ناكث وعد، أو جاهل أو خائن أو عديم الضمير وهم قلة في السابق وعددهم محدود لذلك كان يكفيهم خبز وحبيبات ملح، أما عديمو الولاء وناكرو الجميل في حاضرنا فلم يعد يكفيهم لا العيش ولا الملح وذهبوا إلى المشاوي والمقبلات والحلويات واتخموا بطونهم وإن سألتهم بعد ذلك أو طلبت مساعدتهم في أبسط الأمور تنكروا لك وأنكروك.. هم البشر يتغيرون وفقا لمصالحهم وهذا أمر طبيعي لكن حب الذات والأنا وتقديم الأنانية يجب ألا تطغى او تتخطى حب المجموع ككل، فأنا وغيري نشكل هذا النسيج الاجتماعي المترابط والذي يفترض فيه نبذ المصالح الشخصية الصرفة وتغليب المصلحة العامة والحفاظ عليها. حين كانت اللقمة صغيرة لا تتجاوز العيش والملح كان الوعد صادقا والعهد مصونا أما حينما كبرت اللقمة ضاعت معها الأعراف والقيم والوعود والمواثيق، ونتساءل: هل ياترى ان سبب تمسك الأوائل بالعهود والحرص عليها هو بسبب العيش والملح وقلة المتوفر وشظف الحياة التي ارغمتهم على التمسك بكلمتهم الواحدة التي لا تصبح اثنتين حتى لو أجبروا على ذلك، أي بمعنى لو قدر لهم وكان لديهم ما لدينا الآن من أصناف الطعام وأشكاله وألوانه لتغيرت أحوالهم وبدلوا وعودهم وعهودهم؟! أم هل ياترى أن العيب ليس في الأكل وتوفره ومقداره بقدر ما هو في البشر انفسهم؟! أنا شخصيا أعتقد أن أصالة وشهامة السابقين هي التي طغت على كل شيء وحتى لو توفر لهم ما لذ وطاب فلن تتغير قناعتهم والتزاماتهم بسهولة،، وان جيل اللاحقين لو اقتصرت حياته على العيش والملح فقط فسينكث بوعده إلا من رحم الله. هي ليست ظلما أو حكما مسبقا للمجتمع لكن يبدو لنا أن المشكلة والعيب هو في البيئة والتنشئة قبل كل شيء وكل تلك العوامل تجعل منك حافظا لعهدك ووفيا بوعدك مهما أكلت من الخبز الكثير أو النزر القليل. والعيش والخبز نفسه قد تغير بدلا من الأسمر إلى الأبيض وبأشكال مختلفة فهل نتعاهد على الخبز الدائري او الفرنسي او الشرائح أو خبز التنور أو الصاج، وبجانبه أيضا الملح فهو كان زادا في الماضي والآن يحارب من أطباء القلب وأخصائيي التغذية،، والكل يخشاه لكنه فرض نفسه على كل طعام،، ومهما قيل فاستمرار وجود العيش والملح رغم مرور العصور والأزمان وسر بقائه إلى الآن وحتى يرث الله الأرض ومن عليها هو سر يكمن في أهميته سواء للأكل او كرمز للوفاء والعيش المشترك، ويجب ان نقر بشيء مميز للملح عكس العيش،، فالملح والمملوح صفات تلصق ببعض الأشخاص ممن حباهم الله بسمة من الجمال او الوجه البشوش او المحيا البديع، لذلك فالملح استحق الدرجة النهائية.