جاءت هذه الذكرى وتداعت معها الذكريات الأثيلة وأنا طفل ثم فتى، ففي هذا الشهر الفضيل يكون مرَّ على وفاة والدي 30 عاماً، فقد توفاه الله تعالى في اليوم 12 من شهر رمضان عام 1406ه. انشقت عيناي في طفولتي، وأنا لا أعرف أمي إلا باسمها: "نورة"، أما رسمها فغيّب في صدع من الأرض وعمري سنتان، ماتت إثر عملية جراحية وفي بطنها حمل مات في آخر شهره التاسع، يعزيني أن تكون شهيدة مبطونة، رحمها الله ورزقني برها بعد مماتها. كنت أسأل عنها فيتلعثمون، ما يدرون بماذا يجيبون؟! فإذا ألححت عليهم قالوا: ذهبت في زيارة للرياض، ولا أدري أنا وعمري 3 أو 4 ما الرياض؟! بل لو قالوا ماتت ربما لا فرق بين ذلك وبين الزيارة، لكن الوجع والألم الذي في قلوبهم يخفونه عن صغيرهم! فتحتُ عيني أنا وإخوتي وأخواتي الصغار، فوجدنا شيخاً كبيراً قارب السبعين من عمره، طويل القامة بهي المنظر، تعلوه لحية علاها البياض وتزيدها جمالاً ومهابة، يزينه سن مذهبة بجهة أسنانه اليمنى، يلتهمك بحديثه وقصصه وطيبة نفسه وخدمته. كان والدي من كبار تجار بريدة، ومن رجالات العقيلات المشهورين بالرحلة للتجارة وطلب الرزق في الشام وفلسطين والأردن والعراق ومصر، وجدت لديه هيبة الأب، وحنان الأم يتفقدني ويسأل عني كل يوم، ويوصي أختي الكبيرة أم بدر بي وبأختي أم فهد وأم محمد. إذا أتى الفجر من الصلاة، جلس ليفطر، ونادى علي فيطعمني معه ويسقيني من "رويب" زبادي البقر، فإذا قدم قبيل الظهر وجلس لغدائه البسيط سأل عني، فآتيه فيجلسني بحجره ويضمني ثم يجلسني بجانبه فيأكل من التمر ويشرب من اللبن ويطعمني، وأنا فرح مغتبط مسرور. كان -رحمه الله- رحيماً لطيفاً جداً، ومن ذلك أنه كان يأخذ مجموعة تمرات فيخلطهن ويشكلهن كالفنجان الصغير، ثم يملؤه لبناً فيشربني اللبن وسطها عدة مرات، وكان طعم اللبن بالتمر لذيذاً جداً، فإذا رآني اكتفيت أكلها وهو لتوه أخرجها من فمي! بل كان يسلت ويمسح بواقي اللبن من فمي بإصبعه ثم يلحسه من يده، فأي امتزاج بين الأب الرحيم والابن اللطيم فاقد الأم؟! كنتُ أراه قبل كل صلاة يرفع إزرته وأكمامه ليتوضأ، فاذا خرج من الميضأة رفع إصبعه ذاكرا الله مصلياً على النبي –عليه الصلاة والسلام- ثم ينطلق للمسجد قبل الأذان مترسلاً ومتنفلاً ومفترضاً، ولما بلغت السادسة كنت أذهب معه لمسجد حارتنا "الرويسان" فألعب أحيانا بتراب المسجد الخلفي، وإذا أقيمت الصلاة جلست بجواره، فأراه بعد الصلاة يتنفل السنة الراتبة، وأحيانا يجد عند باب المسجد مسكينا أو مسكينة فيتصدق بما يسر الله له. كان أبي كريماً مضيافاً يولم في الأسبوع عدة ولائم، واحدة للمشايخ كالشيوخ ابن حميد وصالح البليهي والخريصي والسكيتي وغيرهم، وواحدة أخرى لأصحابه التجار كإبراهيم الراشد الحميد، ومحمد البليهي، وراشد الرقيبة، وعلي الخلف السيف، وعبدالرحمن الخضير وغيرهم، وواحدة للأقارب والجيران. كان بكل محبة يتفقد الأرامل والفقراء، بعضهم يأتوننا في البيت فيعطيهم، وبعضهم نذهب لهم بالسيارة فيقضي حاجتهم، وكان يديّن المحتاج فإن أعسر أنظره، وأحيانا يضع عنه ويتنازل. أتذكره.. يذهب لسوق الجردة للتجارة ضحى وبعد العصر، ثم قبيل المغرب يرجع وقد جهّز له العشاء المطبوخ: "مرقوق، أو مطازيز، أو قرصان فلما يصلي المغرب نأكله سوياً، وبعد صلاة العشاء يرجع ليجلس قليلاً ثم ينام، ثم قبل الفجر بساعتين يستيقظ لصلاة الليل، كانت صلاة الليل لذلك الجيل شيئا طبعياً مفروغاً منه، وكان يطيل القيام والركوع والسجود مع أنه لا يحفظ من القرآن إلا بعض جزء عم ومتفرقات منه سماعاً. من قمة رحمته ولطفه وإحساسه، أنني مرة -في ليلة شتوية- أصابني ألم شديد في أذني عجزت أن أنام بسببه، وعمري آنذاك 10 سنوات، ففزعت وتألمت الساعة الثالثة ليلاً، ذهبت فطرقت على والدي غرفته الخاصة وكان قد تزوج خالتي أم خالد، فقام مسرعاً، يسألني: ما بك؟ وضمني؛ فشكوت له وجع أذني، فأخذني معه إلى قهوة مجلس الشتاء؛ وكان قد بقي تحت الرماد جمر من ليلة البارحة فحركه ثم أتى بعلبة معدنية فارغة (كانت علبة صلصة طماطم!) فوضع فيها نقطة زيت ووضعها على النار، فلما حمي قليلاً دفأه وصبّه في أذني وقد وضعني على فخذه، وبدأ يهدّني فسكن الألم، فغططت بالنوم فلم أنتبه إلا حين أذن الفجر، فأقامني من فخذه! ولما كنت في الثالثة عشرة من عمري كان الوالد يقصد ويهيجن ويردد أجمل الشعر النبطي، وكان هو شاعراً فأردد معه قصيدة العوني -رحمه الله- يا لله يا والي أو الخلوج؛ فيعجب بصوتي ثم يأخذ برأسي فيقول: يا وليدي القصيد الزين حلو ترديده؛ لكن الأجمل والأحسن يا عبدالعزيز، عليك بالقرآن فمدارسته بركة وأخذه عز في الدنيا والآخرة، فلما تخرجت من الابتدائي أخذ بيدي وذهب بي متوكئا على عصاه ماشياً -وقد قارب الثمانين- ليسجلني بمعهد بريدة العلمي وكان بعيداً، فكان ذلك من الخير الذي وجهني للعلوم القرآنية والشرعية. فرحم الله ذلك الأب الذي -مع كبر سنه- وجدت لديه الطيب والخير والحب والعطاء والإحساس، رجل جمع الله فيه لأجلي عقل أب وقلب أم، وغفر له ولوالدتي واسكنهما الفردوس الأعلى وجمعنا بهم، آمين. أستاذ التوجيه والإرشاد النفسي بجامعة القصيم