العيد عليكم مبارك .. أعاده الله عليكم وعلى وطننا وأمتنا بالأمن والسلام. في ذلك الزمن الجميل القديم، كانت «عيديتي» في طفولتي من والدي رحمه الله عشرة ريالات، حين أقبل رأسه صباح العيد وقد ازينت بالجديد وبادرته بكلمات محبة: العيد عليك مبارك وقبّلت يده ورأسه ؛ فيرد عليّ بمثلها مشفوعة بدعوات مغمغمة لم أكن أعيها، ثم يدخل يده في جيبه ويضع في راحتي الصغيرة عشرة ريالات! وتتناثر في يدي ريالات أخرى في ذلك الصباح البهي المشرق بنور مختلف عن كل الأيام، أو هكذا كان يخيل لي ؛ فشعشعة صباحه بعد صلاة الفجر ونحن نمد خطانا العجلة إلى المنزل لم تكن كشعشة صباح يوم أمس، وحفيف ملابس بعض الجيران الذين استعجلوا فازينوا مبكرين لم تكن أيضا كأمس، وتصبيحات المصلين بعد صلاة الفجر بعضهم على بعض في حروفها غنة وفي كلماتها لحن زهو، وخلو المسجد من مصليه في وقت يسير على غير العادة يوحي بأنّ اليوم يوم آخر مختلف! وحتى الأنواء تأبى إلا أن توحي بأنّ ما بقي من خيوط ليلة العيد قد انحسر في عجالة لتدع مكاناً أوسع وفضاء أرحب لأشعة صباح يوم آخر مشعشع بالفرح تحمله نسمات طرية بهية، محملة بأمان وابتسامات سخية وأضحيات وزيارات رضية، وهاهو ذلك المنزل الطيني الصغير قد بدا أكثر سعة وامتلأت مداخله وباحته المربعة برائحة بخور زكية تعلن أن هذا الصباح له نكهة أخرى مختلفة! هذه ملابسك جاهزة للعيد يا بني؛ هكذا قالت والدتي وأخذت تعدد: هذا شماغك وهذا ثوبك وهذه طاقيتك وهذا حذاؤك! الله الله ! كل هذا الجديد لي؟! لا وقت لانتظار الفرح ؛ لأبدأ الآن في ارتدائه قطعة قطعة، فمع كل تغيير وتبديل من القديم إلى الجديد يحل في أوردتي وشراييني الصغيرة فرح أبيض منزل من فضاءات الغيب التي لا أعلمها؛ ولكنني كنت أشعر بها، كنت أشعر أن الله قريب منا رحيم بنا كريم علينا مستجيب لنا، وها هو يغمرنا بمحبته ورضوانه، فيمنحنا كل هذا الحبور في صبيحة يوم نجدد فيه المحبة مع والدينا وأهلنا وأقربائنا وأصحابنا وجيراننا! وازدهى الطفل بعد أن ارتدى الجديد وخلع القديم وكأنه يرتدى زمناً جديداً ويخلع مع انحسار الظلام زمناً آخر قديماً؛ لا بل إنه لم يكن يشعر ببياض الثياب الجديدة التي ارتداها فحسب ؛ بل ببياض التكبيرات والدعوات والتهليلات التي بدأت تتهادى إلى أذنيه مع نسمات هذا الصباح المورق بالرضا والمحبة والحبور من مسجد العيد الواقع على مشارف المدينة وحافة الوادي! كل المدينة برجالها ونسائها تزحف تزحف إلى هناك في حلل قشيبة، حتى إذا فرغوا من صلاتهم اختلطت الجموع وتداخلت الرؤوس الملونة باحمرار وبياض في عناق وقبلات وتهان ؛ الرجال مع الرجال والنساء مع النساء، وسواد عباءاتهن من بعيد لا يكاد يخفي ملابس زاهية تعلن توقاً إلى الانغماس في مشاعر هذا اليوم البهية. اجتمعت الريالات من هنا وهناك، وتعددت الزيارات من بيت إلى بيت، وذبحت الأضحيات، وقدمت الموائد بطعم لا يتكرر ولا يشبه أية مائدة في يوم آخر! كم مضى على ذلك الزمن الجميل؟! أربعون أم خمسون، ربما ! ذاك كان ما قبل التسعينيات الهجرية من القرن الماضي! لم يكن آنذاك تلفزيون ولا فضائيات، ولا هاتف عادي ولا جوال، ولا كمبيوتر ولا إنترنت، ولا إيميل، ولا حسابات إلكترونية! أما اليوم ! ترسل تهنئة العيد برسالة جماعية بالجوال أو الإيميل أو بالواتس أب! وهدية العيد يحولها الأب إلى أبنائه على حساباتهم ؛ فلا يشعرون بها ولا يتذوقون لها طعماً؛ أما الملابس الجديدة ؛ فمعظم الأولاد يلبس جديداً أو نظيفاً كالجديد في كل يوم! انحسر وتولى زمن البساطة ! زمن المشاعر الإلكترونية المثلجة: حولت عيديتك على حسابك يا ابني!