مجددا طرق الإرهاب بلادنا العزيزة، واختار بلدة القديح في محافظة القطيف هدفا لعمليته الغادرة. والمكان هو بيت من بيوت الله، والتوقيت هو أثناء تأدية صلاة الجمعة، وأعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن تنفيذ هذه الجريمة النكراء. واستشهد نتيجة لهذه الجريمة أربعة وعشرون فردا، عدا العشرات من الجرحى. وجاء ارتكاب هذه الجريمة، بعد عدة عمليات إرهابية، بحق جندونا البواسل، أثناء تأدية واجبهم في حماية أمن البلاد واستقرارها. وتبنى تنفيذها جميعا تنظيم داعش. وبالتأكيد فإن تبني تنظيم داعش تنفيذ العمليات الإرهابية الأخيرة، يجعل من غير الممكن قراءة ما حدث بمعزل عما يجري، قريبا منا، في عدد من البلدان العربية، في العراقوسوريا، حيث تتمركز داعش، وتسيطر على أجزاء كبيرة من أراضي البلدين. وحيث يجري تنفيذ الاستراتيجية الكبرى، الهادفة لتمزيق البلدان والشعوب العربية، والتي بدأ تنفيذها منذ أكثر من عقدين، واتضحت معالمها في أحداث الأربع السنوات المنصرمة، وكان من نتائجها تفكيك كيانات وطنية، وتسعير الحروب الطائفية، تمهيدا لإعادة صياغة خارطة المنطقة، على أساس استبدال الدولة الوطنية، بكانتونات الطوائف والأقليات. ارتكاب جريمة القديح في بيت من بيوت الله، واستهدافها المباشر للمصلين، يؤكد وجود نوايا مبيتة، للتسعير الطائفي، وجرح مكونات الوحدة في هذه البلاد. فهذا الحدث بخلاف حوادث تفجير سابقة، استهدف مكانا للدعاء والعبادة. والفرق كبير بين استهداف مؤسسات اقتصادية واجتماعية، وبين استهداف مكان للعبادة. في الحالات السابقة، لم يكن هناك فرصة لتنشيط الخطاب الطائفي البغيض، وتبرير فعل الجريمة من بعض من يحتسبون زورا وبهتانا على الوطن، والذين يستهدفون أمنه واستقراره. وكانت مهمة القيادة السياسية واضحة في التوجه مباشرة، ومن غير رحمة، نحو محاربة الإرهاب، ولم يكن عليها أن تعالج التبعات النفسية وقضايا الوحدة الوطنية، وهي تتصدى لجرائم التخريب. فالكل في خندق المواجهة، والجميع قيادة وشعبا في خيمة واحدة، وسفينة واحدة. وإذن فهدف الإرهاب بالقديح، هو زرع بذور الفتنة، وحصاد لجهد طويل ومستمر من شيوع ثقافة التحريض والكراهية. ولذلك تغدو مهمة مواجهة تداعيات الجريمة، شاقة وعسيرة، لأن الرد على ذلك يقتضي مواجهة ثقافة الكراهية، في كل الخنادق من غير استثناء، وبغض النظر عن المسميات، وأن تستبدل ثقافة بثقافة ورؤية برؤية، بما يعزز تماسك النسيج الوطني، ويهزم خفافيش الليل، ويعيد للجميع السلام والطمأنينة. لقد أكد مجتمعنا السعودي، رسوخ وعيه وانتمائه الوطني، وشمل ذلك المصابين وأهاليهم. تجلت ردود الفعل بوعي شعبي عميق لأهداف الإرهاب، فكان أن شهدنا انضباطا عبر عن وعي رفيع. وجاءت ردود الفعل، من كل مناطق المملكة، من كل مكونات المجتمع السعودي، في فاجعة القديح لتفشل مخططات الإرهاب، ولتعلي من شأن الوحدة الوطنية. برز التلاحم بين الشعب وقيادته. فمخطط الإرهاب لا يستهدف بلدا بعينه، ولا أشخاصا بعينهم. الإرهاب مشروع سياسي يستهدف زجنا في قلب الحرائق التي تجري من حولنا. إن هدفه وحدتنا ووجودنا، ولا يمكن فهم مسبباته، إلا بوضعه في سياق الأجندات الكبرى، الهادفة لتفكيك المنطقة، والتي بدأ الإفصاح عنها منذ مطالع التسعينيات. وقد تعززت باستراتيجيات وخرائط تفصيلية، لم تعد سرا على من له قلب وبصيرة. في القديح قدمنا قافلة رائعة من الشهداء، نحتسبهم جميعا قربانا لوحدتنا الوطنية، ووقع مصابون كثر، وتجلى التماسك الاجتماعي، في آلاف البشر، الذين زحفوا إلى مستشفيات القطيف والدمام، وإلى الوحدات الصحية، للتبرع بالدم. وامتزج دم أبناء هذه البلاد، في أوردة الجرحى، والدم لا يسأل عن المذهب، ولا عن الجنس أو المنطقة. في يوم الاثنين من هذا الأسبوع، كان مشهد تشييع الشهداء مهيبا. صحيح أن الحزن كبير، في فقد الأهل والأحبة، لكن القافلة ستظل تسير، وسيطل الربيع الأخضر مجددا، وستنتصر قيم الوحدة والفضيلة والتسامح، ويهزم نهج التكفير. أثبتت الأجهزة الأمنية، التابعة لوزارة الداخلية، مهارة عملية قادرة، وبالسرعة القياسية في إلقاء القبض على الجناة، لينالوا القصاص العادل. وكانت مشاطرة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن نايف، وأمير المنطقة الشرقية، صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف مع الأهالي أحزانهم، عاملا مساعدا في تخفيف معاناة المصابين وأهاليهم. لقد فشل الإرهاب في تحقيق هدفه، ولم يتمكن الجناة من خدش الوحدة الوطنية. لكن السؤال الذي يقلق كثيرا من المواطنين، هو ماذا بعد؟!. ومصدر القلق يمكن في طبيعة الحدث المروع. فقد تمكن الجاني من التسلل مستغلا غفلة المصلين، فنفذ جريمته. لا شك أنه ليس بإمكان أحد أن يعد بعدم تكرار ما حدث في موقع آخر، من بلادنا لكن الضمانة في قهر الإرهاب هي في وحدتنا وتماسكنا. وينبغي أن يكون واضحا أن مواجهتنا الملحمية للإرهاب ينبغي ألا تقتصر على خندق واحد، وتدع الخنادق الأخرى مكشوفة وقابلة للاختراق. سيكون على الجميع الانخراط في المواجهة الوطنية الكبرى للإرهاب، وطبيعي في هذا السياق، التأكيد على مواجهة ضروب النشاط الاجتماعي والفكري السلبية والمؤذية التي تمارس في مختلف الميادين، والتي تسهم في شيوع ظواهر التطرف في مجتمعنا. إن مواجهة الإرهاب، تقتضي إعادة القراءة والتقييم لمرتكزاتنا الثقافية وتفكيكها، وإعادة تركيبها، بطريقة تفتح الأبواب مشرعة وتتيح المجال للتلاقح في الفكر والثقافة وتغليب لغة الحوار، واحترام الرأي الآخر، والتسليم بالحق في الاختلاف، بما يعزز الوحدة الوطنية ويخدم مشروع البناء والتنمية. إن عدم التسليم بالحق في الاختلاف ليس حاصل جمود في تفسير النص، ورفض الاجتهاد فقط، ولكنه أيضا حاصل بنية اجتماعية هشة ومتخلفة. إنه انعكاس موضوعي لحالة ضعف في هياكل النخب الثقافية. وهو ضعف يشمل قاع المجتمع وسفوحه، لا فرق. ولا يستثنى من ذلك أحد. تلجأ النخب الثقافية والفكرية التي يفترض فيها أن تمارس عملية التفكيك والتحليل، نتيجة عدم استيعابها مناهج التحليل وتطبيقاتها، ولعجزها عن التصدي لواقعها ومشاكلها الخاصة، وبسبب غيابها عن التحولات الكونية التي شهدها هذا العصر، إلى الحيل الدفاعية، فتستعير أطروحات وكليشات من خارج بيئتها ومحيطها، يكون من نتائجها غيابها المطلق عن لغة العصر. المشكلة في مواجهة الإرهاب، أننا نتعامل مع نموذج غريب ومشوه من البشر، يرفض التعايش مع مجتمعه، نموذج لا يؤمن بسنن الكون، التي اعتبرت اختلاف الناس رحمة. والمعضلة مع هؤلاء، لا تكمن في اختلافك معهم، فذلك ما يمكن التعايش معه، ولكنها تضعك بين خيارين لا ثالث لهما، إما التسليم بأطروحاتها الواهية، المستندة على الوهم، أو المواجهة المسلحة، مع المجتمع بأسره، حيث تكون أهداف إرهابهم الأطفال والمدنيين العزل. المواجهة الوطنية الفكرية للإرهاب، ستكون شاقة وطويلة، لأنها مواجهة مع أفكار ومع سلوك منحرف، ولا مناص من خوضها. لأن في استمرارها خطرا على الأمن واستمرارية الوحدة، وعلى أداء الدولة، التي يفترض أن تكون جهودها مكرسة لخدمة مشاريع التنمية. وهذا يطرح علينا بحدة سلامة الكيانات الوطنية، وبناءها الفوقي الممثل في بقاء الدولة كضامن للسلم الاجتماعي. فالدولة باتفاق علماء السياسة والاجتماع هي أرقى ما وصل إليه التطور الإنساني، من أداة لتنظيم وإدارة العلاقة بين أفراد المجتمع الواحد. وقراراتها في كثير من الأحيان تكون موضع جدل وخلاف، لكنها في النهاية هي الضامن لأمن المجتمع واستقراره. انهيار الدولة يعني العودة لصيغة المجتمعات البدائية، وتهديد أمن المواطن واستقراره، وتعطيل مصالح الناس. وهو أمر لا يخدم تطور المجتمع ونهوضه. في السنوات الأخيرة شهدنا انتكاسا مروعا، للدولة الوطنية. وكان البديل عن سقوط الأنظمة القائمة، هو سيادة نهج الإرهاب، وبروز مافيات القتل على الهوية، وتفكك كيانات وطنية عديدة. وكان بالإمكان أن نجادل لمصلحة التحولات العنيفة التي جرت خلال ما عرف بالربيع العربي، لو أن الأمور في تلك البلدان عادت إلى سابق عهدها، من حيث ضمان أمن الناس ومصالحهم. لكن ما رأيناه على الأرض، هو انهيار الدولة الوطنية، وتغول الحركات الإرهابية. لقد تأكد بما لا يقبل الجدل أن عسكرة الحركة الاحتجاجية، قد أدى إلى ضياع الدولة، وبالتالي تعطل مصالح الناس، وتهديدهم في ممتلكاتهم وأعراضهم. في العراقوسوريا وليبيا واليمن، ضعف دور الدولة، وجرى تدوير للقوى التي قادت الحركة الاحتجاجية، حيث لم تعد الأهداف الأصلية التي طرحت في بداية الحركة الاحتجاجية تطرح الآن في أدبيات عناصر الإرهاب، التي فاقت في جرائمها وأفعالها الشنيعة، ما يمكن لأي عقل تصوره. وآخرها الزحف الحوثي، على معظم أراضي اليمن. وتزامن ذلك مع تصاعد نشاط تنظيم القاعدة. وفي سوريا كما في العراق تسيطر جماعات الإرهاب، على عدة محافظات، مهددة وحدة البلاد، ووجود الدولة. لا مناص من أجل إلحاق الهزيمة بالإرهاب، من إعادة الاعتبار، لسلطة الدولة، في الأقطار العربية، فهي وحدها الضامن لتنمية البلاد، واستخدام مواردها بما يخدم مشروع النهوض... لكن شرط تحقق هذا الهدف أولا وأخيرا، هو الانتصار لمفهوم المواطنة، وإلغاء فكرة الفرقة الناجية، وإعلاء شأن الدولة الوطنية.