تعتبر المضادات الحيوية على الأرجح التقدّم الطبي الأهم في القرن العشرين. وقد عمل المهنيون الطبيون على تأريخ تطورات هذا التحوّل في حينها: لديك مرضى كانوا يعانون من الاختناق حتى الموت بسبب الالتهاب الرئوي أو كانوا يصارعون مرض السل، ومن ثم فجأة، بعد مضي بضعة أيام، تم شفاؤهم.. إذا كنت من محبي كتب جيمز هيريوت التي تدور حول العمل كطبيب بيطري في يوركشاير في الثلاثينيات من القرن الماضي، فسيكون لديك بالفعل إحساس بما أعنيه. هذا التقدم العلمي، في الممارسة العملية، كان يبدو وكأنه السحر. لسوء الحظ، القوى السحرية التي نمتلكها آخذة في التآكل.. تواجه المضادات الحيوية عدوًا جديرًا وتكيفًا بشكل لا نهائي.. إنه البكتيريا. كلما زاد استخدامنا لكل عقار، يصبح هذا العقار أقل فاعلية. هذا يعني أننا بحاجة إلى تدفق مستمر من المضادات الحيوية الجديدة، وهذا لا يحصل، جزئيًا بسبب تعثر واضطراب السوق التي تقوم بتطوير تلك الأدوية الحيوية.إليكم العملية الأساسية الخاصة بشركة الأدوية التي تعمل من خلالها على تطوير العقار والاستفادة منه. أولًا، تنفق حفنة من المال في البحث عن المركبات التي قد تؤدي الغرض الذي تريده أنت.. ومن ثم، تتقدم بطلب الحصول على براءة اختراع، وتسجل لدى إدارة الأغذية والدواء والهيئات المنظمة في الدول الأخرى.. هذا يسمح لك بالبدء بإنفاق كمية كبيرة من المال على التجارب السريرية التي سوف تحدّد فيما إذا كان عقارك الجديد يفي بالغرض الذي تريده أنت فعليًا، دون قتل أو تشويه المريض. عند نقطة معينة خلال عملية التجريب السريرية، سوف يمنحك الجهاز التنظيمي براءة الاختراع الخاصة بهذا الدواء. من ثم، تُنهي التجارب السريرية، وإذا بدا أن العقار جيد للجميع، يمكنك البدء في بيعه. وينبغي عليك من الآن حتى نفاد براءة الاختراع أن تعمل على استرداد المبالغ الهائلة التي أنفقتها في تطوير هذا العقار (إضافة إلى بعض المال الإضافي لحملة الأسهم لديك، وتغطية تكاليف جميع التجارب السريرية التي لم تؤدّ إلى إيجاد عقارات رائجة).. بعد ذلك، سوف تدخل المنافسة العامة الأسواق لتعمل على التنافس مع هوامش الربح الخاصة بك لتخفضها.. هذا عمومًا سيمنحك ما يزيد قليلًا على 10 سنوات لتكسب كل هذه الأموال من خلال عقار جديد.. على سبيل المثال، أوبديفو، علاج مرض السرطان الجديد المثير وباهظ الثمن الذي تمت الموافقة عليه العام الماضي، ربما سيكون مؤهّلًا للإنتاج من شركات الأدوية الموازية في عام 2027.هل يمكنك معرفة لماذا يشكّل هذا مشكلة بالنسبة لتطوير المضادات الحيوية؟ إذا قامت شركة ما بتطوير علاج جديد ومثير لمرض السرطان يقدم نتائج عظيمة، فسيبدأ أطباء الأورام بضخ هذا الشيء إلى المرضى بمجرد الحصول على الإذن من شركات التأمين. وإذا قامت شركة ما بتطوير مضاد حيوي جديد ومثير، فسيمتنع أخصائيو الأمراض المعدية عن استخدامه لأطول فترة ممكنة، مستخدمين الأدوية الموازية الأقدم، كلما كان ذلك ممكنًا والاستعانة بعقارك الجديد فقط عندما يفشل كل شيء آخر. بحلول الوقت الذي يكونون فيه مستعدين لاستخدامه على نطاق أوسع، وسيكون هذا العقار قد نفدت صلاحية براءة اختراعه، والشركة التي طوّرته لن تجني أية أموال من ورائه، حيث إن شركات الأدوية الموازية سوف تبدأ بإنتاجه على نطاق واسع وتبيعه بأسعار أرخص. من وجهة نظر السياسة الصحية، هذا هو بالضبط الخيار الصحيح، إنه يزيد الوقت الذي يمكِننا من استخدام مضاد حيوي فعّال، ويوفر التكاليف بشكل كبير. لكن من حيث كونها سياسة لتطوير الأدوية، تعتبر أمرًا كارثيًا.. واهتمام الشركات بإيجاد مضادات حيوية جديدة يتناقص بشكل كبير جدًا، ذلك لأنه من الصعب جدًا كسب المال ضمن هذا المجال. وقد أصدرت للتو اللجنة التي تقوم بدراسة هذه المشكلة للحكومة البريطانية منذ عام 2014 تقريرها الثالث، مثيرة قضية الحوافز المالية المنحرفة التي تعصف بالقطاع. وإليكم، باختصار، هذه الاقتراحات: 1/ إنشاء كيان عالمي ليدفع لشركات الأدوية مبلغًا موحّدًا من المال مقابل تطوير مضاد حيوي يفي بالمعايير المحددة. بدلًا من الحصول على المال مقابل كل حبة دواء يتم بيعها، وسيحصلون على المال مقابل إضافتهم أسلحة إلى ترسانتنا. حتى لو كنا بالكاد نستخدمها. 2/ تأسيس صندوق عالمي لدعم بحوث «السماء الزرقاء» في مضادات حيوية جديدة. 3/ تخفيض الحواجز التنظيمية التي تضيف الوقت والتكلفة لعملية تطوير الأدوية. كل هذه الأمور الثلاثة تعتبر اقتراحات ممتازة.. السؤال هو فيما إذا كان بإمكانها البقاء والتغلب على الحواجز السياسية الضخمة التي تتواجد في مثل هذا النوع من الأشياء.. ومن الصعب إبرام الصفقات العالمية. وقد يخشى المشرعون والمنظمون أن يتم اعتبار هذا كمساومةٍ على السلامة العامة من أجل الحصول على الأرباح لصالح الشركات الكبرى.. وذلك أن الميزانيات العامة تعاني من نقص الموارد. وعلى أية حال، لا تكون الحواجز كبيرة جدًا كما هي بالنسبة لأي شيء مثلما هي بالنسبة للعمل المنسق بشأن قضية الاحترار العالمي.. والمبالغ المعنية في الموضوع صغيرة نسبيًا، وهنالك العديد من جماعات المصالح الراسخة بشكل قليل تقف في الطريق.. وهذا البرنامج ممكن بشكل كبير، وهو أيضًا أمر ملحّ.. إذا واصلنا السماح لهذه السوق بأن تفشل، فسوف تفشل أيضًا معجزاتنا في القرن العشرين.