لا أذكر أبداً أن (أمي) يرحمها الله ويسكنها فسيح جناته قد فتحت مجلساً كثر فيه اللغط والغيبة والنميمة، ولم تكن أبداً تجاري الأخريات في هذا الميدان، وإن تسابقن فهي ترضى دائماً بأن تكون في هذا اللغط (صفراً) ولله الحمد، لذا فقد كانت محل ثقة الجميع في محيط العائلة الكريمة داخلها وخارجها من الصديقات والمعارف وحتى الجيران، الكثير يلجأ إليها ليبث حزنه وهمه ومشاكله، فكانت دائماً تحثهن على الصبر وتخرج كلماتها بالحكمة في ضبط النفس وعدم القطيعة أبداً وتصغير الحدث والمشكلة في أضيق دائرة!! لذا فلا عجب أن أرى مجلس عزائها وقد توافد الناس من كل مكان ومن كل صوب وحدب، فمن داخل الوطن جاءوا من مناطقها (الشرقية والغربية والشمالية والجنوبية والوسطى)، ومن دول الخليج العربي جميعها بلا استثناء، حضوراً وعلى مدى ثلاثة أيام، ولو شرع الإسلام للعزاء أسبوعاً لاستمروا!! أما من الدول الأوروبية فأول هاتف وردني من صديقتي العزيزة في (بريطانيا) ومراسم الدفن لم تتم بعد!! ومن (ألمانيا وأمريكا) أكثر من هاتف ورسالة نصية واتصال، إنهم أحبابها ومن عرفوها (قلباً حافظاً ولساناً لله ذاكراً وعيناً عن زلات الناس مغمضة) هكذا كانت أمي عدواً للغيبة. في الآونة الأخيرة أفاق كثير من الناس على إدراك عظم «الغيبة والنميمة»، فمنابر المساجد أجادت في خطابها الديني التحذير من هذه الفتنة، وبعض برامج القنوات الفضائية حاورت علماء الدين والشيوخ الأفاضل الذين تحدثوا عن مخاطر مجالس «الغيبة» قال عز من قال: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه). والشيطان يواكب العصر في أسلوب الغي والضلال فهو يستمر يزين للناس سوء أعمالهم، وينشر ذريته في أرجاء الأرض ويرسلهم بين الناس كي ينشغلوا عن ذكر الله، وليكونوا جميعاً من المطرودين من رحمة الله عز وجل كشأنه (نسأل الله العافية)، حتى في التقنيات والوسيلة الالكترونية كان له دور كبير بل وخطير جداً، فمجالس الغيبة البشرية مرئية للعين، أما الغيبة الالكترونية فهي متخفية بمسميات عديدة وأساليب مختلفة حتى إذا ما جئت لتقول لأحدهم «إحذر أن تغتاب» رد عليك ضاحكاً: إنما نخوض ونلعب بالواتس وأخواته!! (الواتس آب) من أخطر مجالس الغيبة، لأنها تخط بكلمات صامتة هادئة لا صوت لها فهي (لا تُسمِع ولا تَسمَع) فتنساب الغيبة في ظلمات القلب حتى تصل إلى «السويداء» ويتحرك معها باقي الجسم والعقل والروح متفاعلاً وجدانياً ومتأثراً سلوكياً!! كم من مقطع فيديو جاء فيه استهزاء بسلوك لشعب ما، وكم من مقطع أظهر انتقاصاً لشخص ما، وأصبح الناس يستسهلون بل ويتفننون ويستلذون في تصوير كل سلوكيات الآخرين وتصرفاتهم، وصار الناس على النحو الآتي: مشادة كلامية (صور وانشر)، لبس غير لائق (صور وانشر)، هزل عابث (صور وانشر) ولم ينقصه إلا جملة (انشر تؤزر) على غرار (انشر تؤجر) والتي تأتي خاتمةً لنقل مفيد، ولعلي أستثني ما يتم تصويره للإصلاح الإداري. كلنا وقعنا في فخ الغيبة الالكترونية، منا من ندم وتاب واستغفر، وآخرون لايزالون في غيهم يعمهون، صار من السهل أن نضحك على عالم دين، وعلى أبنائنا، وعلى كبار السن، وعلى عاملة منزلية، وعلى طالب ومعلم، وحتى على أنفسنا دون أن ندرك أن هذا السلوك المشين هو ذاته «غيبة ونميمة»، ولكنها جاءت بصيغة التكنولوجيا والتقنيات فأصبحت غيبة الكترونية، وهذه الشاشة المصغرة لها «سحرٌ لا يقاوم» وجذبٌ وفكاهةٌ، لأنها «أحادية»، بمعنى أنك تجلس فيها مع «نفسك» وثالثكما الشيطان، فلا أحد يصدقك في القول والفعل ليصدك عن غيك، الأمر جداً خطير ولا ينبغي التهاون فيه، لقد استشرى في جسد الأمة كما يستشري النار في الهشيم في الختام: ذات يوم ذكرتُ لصديقاتي أن لي مشاركات في قروب (تربوي تعليمي ثقافي تدريبي) يضم نخبة من صفوة التربية والتعليم والحرم الجامعي وقيادات من المجتمع المدرسي ورواد في التدريب التربوي، وجاء تأكيدي على أن ليس له في لغط الحديث شيء، طلبن توضيحاً أكثر قلت لهن: عدن إلى مقالي (أكاديمية الإبداع) في جريدة اليوم في العدد رقم 15189في 24 / 3 / 1436 الموافق 15 / 1/ 2015 ثم قارن بينه وبين أي قروب في الساحة وستجدن اختلافاً كبيراً.