الأديب الرائع أبو بندر ليست له زاوية في جريدة أو مجلة معهودة. وليست له كتب مطبوعة ولم يتعلق بأي حبل من حبال الشهرة أو لم يقرع طبلاً من طبولها ليقول لمن حوله: (هأنذا).. بل هو ابن البيئة الأحسائية كنخلتها تماماً، ينمو ببطء وهدوء، ولكنه ينمو بمتانة وقوة.. جذور تضرب في أعماق التراث، وفروع تبسط أذرعتها الخضراء لتصافح الشمس والهواء والسمو اللامتناهي. هذا هو خالد ابن الأحساء الذي أعطى بصمت. ولا تملك إلا أن تحبَّه وتجلَّه وتحترمه بصمت. الأحساء هذه البقعة الجغرافية الميمونة هذه المساحة التي بارك الله في كل شبر من أرضها وبارك في إنسانها ونبتها ترى رمالها ذهبا، وماءها عذبا، وخضرتها بكل أنواعها عجبا، ونخيلها رطبا.. وكل مخلوق تفرض عليه البيئة شيئاً لا مفر منه ألا وهو (المماتنة) الذي يجعل المخلوق يأخذ طعم البيئة ورائحتها ولونها ونكهتها ووو... لا أحب السَّجعَ لافي كلامي الشفهي ولا في كتاباتي التحريرية إلاَّ ما جاء تلقائياً دون تكلف وأنا الآن عندما أتكلم عن (خالد بن فهد البوعبيد- أبو بندر) أقول إنه منفلوطي أدباء الطرف تقرؤه فتراه متدفقاً في الكلام كجدول أحسائي قديم من جداول (عين برابر) العذبة.. أبو بندر أديب على سجيته وتلقائيته البيضاء النقية.. عندما يستثيره موقف ما فإنه يرصده من الداخل لا من الخارج والأدب هو العناية بالعمق وتموجاته والداخل واضطراباته. يعرِّف الدكتور الحفني الأدب في معجمه فيقول: هو علم يُحترز به عن الخلل في الكلام، ومنه يُعرف ما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة، ومنفعته إظهار ما في نفس الإنسان من المقاصد...ومثال ذلك قول أبي بندر عن بلبل الأحساء: بين ذراعين ذهبيين من الرمال ملتفين تبدو واحة الأحساء وادعة وحالمة بحجم أحلام الربيع الملونة مسكونة بفلسفة الاخضرار والنور، والظلال والثمار.. من بين عشاقها (البلبل الحساوي) ذلك الطائر الذي يوشي اللون الرمادي والأصفر والأسود والأبيض حلته الريشية ينساب من حنجرته عزف سيمفوني ألِفه الفلاح الأحسائي وتراقص في داخله على أنغامه.. يطوف بالحقول ليرسم بشكله وصوته لوحات الفن وانساق الجمال المرتل.. يمتطي النسائم ويغازل الضياء والورود ويذرع الرياض ويتسنم الأغصان ليحدو الفلاح، ويبارك له جده واجتهاده.. نعم ليس كمثل هذا الطائر حينما صاغ الأحساء أنشودة يترنم بها ملء الأسماع وعبر المروج، وظل هذا الطائر وفياً لواحة الجمال الأخضر حتى عرف بها وعرفت به، فلا يهاجر كالطيور المهاجرة، بل إن أغاريده أضحت من ميراث الأحساء الغنائي، كان ذلك في الماضي القريب، أما في الحاضر فإن هذا الطائر يطوى جناحاً مهيضاً، ويخفق بخواطر موجعة فكم طارده السجانون له في الأقفاص، والمتاجرون بصوته وجمال شكله، حتى قيدوا في الأقفاص جناحه، وكتموا عن المدى تغريده اغلقت دونه الجهات، وإلى جانب ذلك كله تنكر له شعراؤنا فلا تكاد تحس له خفقاً أو تسمع صدى لأهازيجه في ديوان الشعر الأحسائي... وهذه مقالة قديمة للأديب خالد عن النخلة أجتزئ منها: [انتظمت الحميمية بين العربي والجواد والجمل والنخلة العربية. حتى تكاد تحسبها جميعاً جزءاً من صميم عرضه.. حيث توثقت بينهم عرى وجدانية فطرية وبيئية. وعاش العربي مسكوناً بالحب تجاهها، لأنها اختزنت له طاقة الغذاء والدفء.. فكأنه رأى في وقوفها وثباتها معه الوطنية أمام شح السحاب والأرض أحياناً. اعتنى بها كعنايته بنفسه أو أشد، وأناخ نفسه ونظراته الحالمة في ظلالها الممددة، ألهمته الفن والأدب فتجاذب الأحاديث حولها وردد القوافي والألحان عندها. نواة تخبئ في التراب فترتعش ثم قامة يمتد بها الحسن إلى اللامحدود فتهتز لتساقط جنى من الرطب والتمر بألوان وطعوم شتى. فيا أيها العربي إنه لمن الجفاء.. أن نرى شجرة وافدة تعم شوارعنا وحدائقنا ونخلتنا العربية تصبح غريبة في السماء العربية. هذا أبو بندر الأديب السامق كالنخلة، العملاق كجذعها، الحلو كتمرها، والذي جاءت ألفاظه قوالب لمعانيه أو كادت. باحث لغوي