ظننتُها مداعبةً سخيفةً من ثقيلِ ظِلٍّ كان ذلك حين نَزَلَتْ عليّ الصاعقةُ على غير حياءٍ مَاتَ فرحان العقيل وحينَ تأكدتُ أَنَّها لَيْسَت مِزَاحًا ثَقِيلًا ظننتُ أَنَّ أُذُنيّ تَخْادَعَانِني وما أرجَعَني إلى دَائِرةِ التصديقِ غيرُ إيماني بأنَّ كل شيء هالكٌ، ولا يبقى إلا الرَّحمن.. كلُّ شيء يموتُ كلُّ شيءٍ حتَّى فرحان العقيل أَبو فهد.. صَاحِب البسمةِ الهادِئةِ، والقلمِ الجريءِ، والصدقِ والكلمةِ الطيبةِ.. صاحب الفضلِ الممتدِّ والعقل الراجحِ والنقد البنَّاء.. المؤدب والمجامِل.. رفِيق أسماء.. بنت العمِّ التي ما جفَّت لها دمعة، أو نَطَقَ لها لِسَانٌ.. آنَ لجذوة الضوءِ أَنْ تخفت وتنطفِئ، ولبحْرِ الحنان أن يجِفَّ.. يجِفَّ!! سلوا عنه لَطِيفَةَ أو عائِشَةَ أو رزَان.. سلوا «فهد» أو «فارس» أو «بدر» زوج ابنته وابنه الآخر، ابن أخي، هكذا يكون فرحان العقيل أخي.. أدرَكْتُ إذَنْ لمَ يختنق صوتي عند الكلامِ، وَتَخْرُجُ مِنِّي الكلماتُ مُبعثرةً تَسْتَدْعِي َالْبُكَاءَ..!!. أتعلمين يا عائشة كيف نعزي أنفسنا فيه؟ سنعزي أنفسنا بأنه مات غير هيَّاب الموت وغير خائِفِه.. مات دون أن يُتْعِبكُنّ معه، أو يُحمِّلَكُن خوف فراقه، أو يُمِيتكنّ كل ليلةٍ فرَقًا في مشفًى جديدٍ.. أتراه يا لطيفة كان يخشى علينا أَلَمَ الوداعِ؟! أَلِذَلِكَ لم يصحبْ أُمَّكُمْ هَذِه المرَّة؟! ها هو يا فهد ينظر إليك من إحدى زوايا المنزل.. عرَّفك الطريق وينتظرك في آخره فاتحًا ذراعيه يتلقف إنجازك، ويفاخر به.. ويرى كيف صار فارس رجلًا، يلبس عباءة أبيه، ويتمنى لو يحتضنكم مرّة أخيرة.. لكن القافلة قد عَبَرَتْ سياجَ الحدود وانطَلَقَتْ إلى السماء. رزان رأيتِه في بدلته الكحلية، لونِكِ المحبَّب.. التقيتما هناك، وخرجْتُما، وتكلَّمْتُما.. هل كان يعلم أنكِ أرقُّ قلبٍ، فما أراد أن تلومي نفسك على فراقٍ لم تقترفيه عمدا، لم يُردْ أن ينكسِرَ زجاج قلبك بضربة لا ذنب لك بها سوى طلب الدراسة في الاغتراب..؟! سبحان الله على الرحمةِ! أسماء ابنة عمي، تذكرين زيارتكما لي حين كُلِّفت وكيلةً..؟! ما زلتُ أذكر الحلوى التي مَلَأَتْنِي بهجة كطفل صغير يوم العيد يتلقى من أبويه رِيالَهُ الأوَّلَ.. ما زلتُ أذكر حديثَه الضاحِكَ، الذي يشِعُّ أملًا، وَيَفِيضُ شَفَقَةً.. ما زِلْتُ أتفرَّس في وجوهِكُم بِحَضْرَتِه، كيف كانت الضحكةُ صافيةً، والكلمةُ صادقَةً، والحنانُ مهولا! يا الله! لله ما أخذ.. وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بِقَدر العجزُ قَدَر الكَسَلُ قَدَر والْمَوْتُ قَدَر وليس لنا الخِيَرة.. والأمرُ كُلُّه لِلَّهِ ابنةَ عمي.. لا شيءَ يُعَزِّيكِ في زَوْجِك، لا شيء على الإطلاق..! لَئِنْ فَقَدَ الأبناءُ أباهُم، فَقَدْ فقدتِ أَنْتِ كُلَّ شَيْءٍ.. لَكِنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ مع المصيبةِ الرحمةَ ومع البلاءِ النعمةَ وهذا فهد أطال اللهُ عمرَه وَجْهُ أَبِيه الأَصْغَر وفارس الفارس.. شمسُ غَدِكِ وهذه لطيفة كَبِيرَةُ العقْلِ الراجِحَة وعائِشة سرُّ أُمِّها.. واسطة العقد ورزانُ.. أمل الجميعِ، وحلم الجميعِ، وأفق الجميعِ باللَّهِ عليكِ تصبَّرِي، فمِنْ صَبْرِك نستعيرُ صَبْرَنا.. ومن ثَبَاتِكِ تَأْتِي سَلْوَانَا.. وحين تَجْلِسِينَ وَحِيدَةً لاتَذْكُرِين وَجَعَ الفراقِ، اذكري ابتسامَاتِه التي كان يوزِّعها في أركانِ البيتِ، وضحكاتِه التي ما زِلْتُ أسمع رنَّتها ها هُنا.. مُدِّي يديك وأمسكي يديَّ فهما تكادان تتجمدان شفقةً ولوعةً عليك.. ولن يثبت رَعْشَتَهُما غيرُ ابتسامة أنتظرها منك، وأعلم أنها لن تغيبَ.. رغم ألمِ الغيابِ. أَلَمْ يكتب هو بنفسه: (الحلم والأناة توأمان ينتجهما علوّ الهمَّة)؟! ألم يقل: (إذا أملقتم فتاجروا مع الله بالصَّدقة)؟! ألم تخط يداه: (من كساه الحياء ثوبَه لم يرَ الناس عيبَه)؟! من كان هذا كلامه، فهل يخشى عليه لقاء الكريم؟!