في هذه الأيام نجد ديناميكية تتجه نحو الإصرار على الإنجاز. ولعل أكثر الطرق فاعلية هي اتباع منهجية ترتكز على "قياس الأداء"، ففي ذلك تحقيق المطلوب من الأجهزة الحكومية من وزارات وهيئات ومؤسسات، كل طبقاً لما هو مناط به من مهام من صحة وسكن وتعليم ونقل وهكذا. ولكن هل إدارة الأداء عملية عبثية؟ أو تقديرية؟ أو تخضع لانطباعات؟ أم أن لها منهجية وآليات محددة مقننة وقابلة للقياس؟ في عالمنا العربي، الإدارة إجمالاً تركز على الجانب الإجرائي وليس على دعم اتخاذ القرار والتنفيذ بأعلى كفاءة، وفي ذلك خطر كبير، بل حتى أن مفردات اللغة العربية لم تسعفنا، فهي قد كرست ذلك؛ إذ أننا نستخدم كلمة واحدة هي "إدارة" لمفردتين بينهما فارق كبير هما administration وmanagement! وفي واقعنا الحكومي، فالسعي سريعاً لقياس الأداء هو ما سيحدث الفرق، والسبب أن عين متخذ القرار ستكون دائماً على تحقيق الهدف، عبر متابعته نتائج قياس ما تحقق، وليس انطباعات الرأي. وتحديداً، فلعل من الملائم القول أن على متخذ القرار من كبار التنفيذيين الحكوميين تتبع المتراكم مما لم ينجز لسببٍ أو لآخر، فكما ذكرت في مقال عن الإسكان الأسبوع الماضي، فلعل أهم مؤشر أداء هو "فترة الانتظار للحصول على قرض من الصندوق العقاري". لا أزعم أن هذا هو المعيار الوحيد، بل أقول إنه الأهم. وكذلك الأمر بالنسبة لبقية الجهات الخدمية، فتقيس ما هو متراكم لديها، مثلاً عدد طلبات التحويل للمستشفيات المتخصصة، أو الطلبات المتراكمة أمام اللجنة المعنية بالتقرير في الحالات لعلاجها في الخارج، أو أي خدمة تقدمها الجهات الحكومية أو شبه الحكومية للمواطنين والمقيمين؛ إذا إن تتبع المتأخر إنجازه والسعي حثيثاً لتقليص حجمه سيحدث فرقاً إيجابياً هائلاً. وبالقطع فإن الاهتمام بما هو متراكم لن يكون كافياً، إذ لا بد كذلك من قياس ما هو مستجد. وعلينا تذكر أن للجهاز الحكومي دورا مؤثرا اجتماعياً واقتصادياً لا ينافسه فيه أحد، لكن أداء الجهاز الحكومي لا يُقاس. وقد تنبه مجلس الوزراء الموقر لأهمية قياس أداء الجهاز الحكومي، فأصدر قراراً بهذا الشأن، وكلف معهد الإدارة العامة بدراسته بتعمق، عندما أصدر قراره رقم (187) وتاريخ 4/7/1429ه، بإنشاء مركز قياس الأداء للأجهزة الحكومية في معهد الإدارة العامة كمرحلة أولى لمدة خمس سنوات، يتولى قياس أداء الأجهزة الحكومية. ويبدو أن هذا المركز آن أوانه؛ لكن ما الفائدة المرجوة من قياس الأداء؟ هل تدبيج المزيد من التقارير؟ الأمل هو أن نقيس الأداء لمقارنته بالمستهدف، والنظر في كيفية معالجة القصور، بل وكيف نستطيع الارتقاء بالأداء. وبداهةَ، فنحن بحاجة دائما لقياس ما نفعل فهو البوصلة الموجهة، وإلا ما الفائدة من تحديد الأهداف ووضع الخطط والميزانيات والجداول الزمنية، بل وما الفائدة حتى من جداول الموارد والكميات؟ لعل الوقت أزف ليُفَعَّل قرار مجلس الوزراء، فينتقل مركز قياس الأداء من مرحلة الاختبار والدراسة والتجريب، إلى التطبيق، فتنضوي تحته جميع تشكيلات الجهاز الحكومي؛ ليقيس أداءها وأن يكتمل ذلك "الانضواء" في فترة زمنية لا تتجاوز العام المالي الحالي؛ فبعد نصف قرن من التخطيط المركزي وعشر خطط خمسية من المبرر الانتقال إلى سياق آخر أكثر فاعلية، لا سيما أن الجهاز الحكومي قد استكمل بنيته التحتية المعلوماتية من حواسيب وشبكات وهي ضرورية للانتقال إلى عالم وضع "مؤشرات الأداء"، وربما تصميم "بطاقة الأداء المتوازن". تصور مزايا أن يصبح أمام كل وزارة ومؤسسة حكومية مؤشرات أداء محددة قابلة للقياس، سنكون بذلك قد وضعنا أسساً لتنفيذ ما نخطط، ومتابعة ما نُنفذ، وليس تقارير تُعدّ تُرسل وتُستقبل بسرعة "الحمام الزاجل" أو أبطأ قليلاً إتكاءً على أدوات من نوع "عطفاً على خطابكم.. وإشارةً لخطابنا رقم وتاريخ"! والسعي لقياس الأداء ليس رفاهية، فحالياً ينقضي العام المالي ولا أحد يعرف تحديداً: ما الذي أنجز، وما الذي أنفق، وأين منابع الإنجاز والفاعلية، وأين مكامن التباطؤ؟ ببساطة، من خلال مركز قياس الأداء سيكون أمام متخذ القرار "طبلون" يبين مؤشرات: كالسرعة والضغط والحرارة والبرودة والاتجاه.. فيما يتعلق بأداء الجهاز الحكومي، وسيكون بوسع متخذ القرار من خلال لوحة التحكم تلك أن يدخل على التفاصيل كيفما يريد وحينما يريد مباشرة بدون خطابات صادر ووارد، وبدون لجان وزيارات ومجاملات تأكل الوقت أكلاً، فيستكشف ويُصلح بؤر انعدام أو تدني الأداء.