كشف استشاري طب الأسرة بمستشفى الأمير منصور العسكري ومدير البرنامج المشترك لطب الأسرة والمجتمع بالطائف الدكتور عبدالسلام الشهري عن درس جرى في المحافظة بيّن حجم الهدر الكبير ل «الأدوية» والنظام الصحي في السعودية. وقال في حديث إلى «الحياة»، إن ذلك الهدر يأتي بسبب فرص «التطبب» المتكررة و المزدوجة للمريض الواحد، مشيراً إلى أن الدرس أجري في مدينة الطائف قبل أعوام حول مصادر التطبب وتأمين الدواء للمرضى المزمنين السكري والضغط وغيرهما. وأضاف أن الدرس وجد أن أكثر من 42 في المئة يراجعون ويأخذون أدويتهم من أكثر من مصدرين، بسبب أهلية العلاج لهم في الخدمات الطبية بأي من القطاعات العسكرية، أو وزارة الصحة، إضافة إلى إمكان أحقية المعالجة في المستشفيات الخاصة لأي من أبنائهم التابعين لنظام المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، مشيراً إلى أنه ومع وجود ما سبق وغيره سيكون من المستحيل توفير العدد الكافي من الكوادر الصحية. وعن الأسباب الحقيقية لظهور خلل «التطبب» لدى جهات عدة وتكرار صرف الأدوية، أوضح الشهري قائلاً: «قد يكون لطبيعة مجتمعنا وعاداتنا والعلاقات الاجتماعية، وغياب برامج التدقيق، والمتابعة، وعدم الاستفادة من التطور الكبير في مجال الحاسب الآلي، والتعاملات الإلكترونية، إضافة إلى التفاوت في توافر بعض الخدمات والأدوية من جهة لأخرى»، موضحاً أن هذه الظاهرة تمثل أحد مظاهر مشكلة الزيادة العالية في نسبة الهدر في النظام الصحي. وعن المقترحات لحل هذا الإشكال، بين الشهري أن صاحب القرار في الخدمات الصحية له دور كبير في اعتماد رقم السجل المدني باعتباره الرقم الطبي الموحد للمواطن مع إلزام الجميع بالتسجيل لدى جهة واحدة ممن له أحقية العلاج لديها، وأن تكون تلك الجهة هي المسؤولة في الترتيب له عند حاجته إلى خدمة لا تمتلكها. ولفت إلى أنه يمكن التغلب على ما يسببه تكرار صرف الأدوية من هدر للموارد، بتجربة الصرف الموحد والمباشر للأدوية عن طريق الصيدليات الخاصة المنتشرة في كل حي. وفي ما يتعلق بنظام البصمة للعاملين بالقطاع الصحي الحكومي والإسهام في ضبط انتظام وأداء العاملين، أوضح الدكتور عبدالسلام الشهري أن القطاع الخاص لايعاني من عدم إنتاجية، أو ضعف أداء العاملين به، مشيراً إلى أن لديه الإجراءات العقابية الكثيرة التي تضمن عدم حدوث ذلك. وأضاف أن نجاح نظام البصمة في القطاع الخاص يعود إلى الاستفادة من خصم مستحقات مالية من الموظفين بسبب التأخر، موضحاً أن نظام البصمة في القطاع الحكومي كرّس مفهوماً جديداً لدى العاملين يتلخص في أنه أصبح هو العمل ومؤشر أداء الموظف. وأكد أن تطبيق معايير عمل القطاع الخاص سيؤدي إلى ترسيخ مفاهيم الإنتاجية، وحسن الأداء، ويحقق العدالة في القطاع الحكومي، وأرجع الخلل الحاصل الآن إلى التركيز على الحد الأدنى لمفهوم الآمان الوظيفي. وأضاف أن الأمان الوظيفي ليس معناه التمسك بالوظيفة، بل في حقيقته ومعناه الأقوى يعتمد على مقدرة الموظف على تطوير ما يملكه من مهارات، وخصائص تمنحه الثقة بوجود عمل مناسب له، وبمميزات عادلة له في أي وقت يفكر في التوظيف، أو البحث عن وظيفة أو تغيير مكان العمل. وأكد أن المفهوم بحده الأدنى يحمّل الجهات الحكومية المسؤولية كاملة في ضمان الوظيفة للفرد بصرف النظر عن فائدته للمجتمع من عدمها، مشيراً إلى أن المعنى النموذجي الصحيح يولد روح التنافس والتميز والاجتهاد والطموح، ويضمن العدالة بين العاملين. وحول معاناة وزارة الصحة من الترهل في عدد الموظفين، وسيطرة الأسلوب البيروقراطي على اتخاذ القرار، قال الشهري: «منذ وقت طويل ونحن نسير على النظام المعتمد على صلاحيات مركزية للوزير والوزارة ابتداء من التعيين وحتى الاستقالة، بل وحتى أحيانا نقل المريض من مستشفى لآخر، فضلاً عن اعتماد البرامج والأنشطة وتنفيذها». وتابع: «في الفترة الأخيرة بدأنا نعاني من فشل كبير، وتعثر لكثير من الخطط التطويرية بسبب ترسخ هذا النموذج من منهجية الإدارة، ولو نظرنا إلى الدول الناجحة في نظامها الصحي فسنجد أن عدم تقليدها للغير وتميزها في خلق نظام خاص بها كان سبب نجاحها، مثل النظام الفرنسي أو النظام الكوبي». وزاد: «لعل إعادة هيكلة الوزارة على أن تحوي عدداً محدوداً من الإدارات مثل إدارة التخطيط، والتشريع، والموازنة، وإدارة التدقيق، والمتابعة، والإدارة المسؤولة عن مكتب الوزير ووكلائه، ثم فصل إدارات الشؤون الصحية، وتخويلها مسؤولية تقديم الرعاية الصحية بناء على الخطة الاستراتيجية الحكومية المعتمدة، وبمتابعة وإشراف إدارة التدقيق، والمتابعة، لوفرنا كثيراً من الطاقات والجهد والمال والوقت، فالطريقة الحالية لتنظيم وزارة الصحة أثبتت فشلها، ومع وزراء كبار وذوي طاقات جبارة ولكن ترهل الوزارة عامل خطير وكان سبباً رئيساً للفشل على مدى ال50 عاماً الماضية». وعن أسطورة الأخطاء الطبية ومكامن الخطر حول معالجة هذا الملف، أوضح الدكتور الشهري، أن النظرة العلمية، والواقعية تحتم علينا الاعتراف بأن الأخطاء الطبية أمر طبيعي ومتوقع ومثل أية مهنة أخرى، مؤكداً على أن الأخطاء المهنية واردة، ولا يمكن تحميل مسؤوليتها على الطبيب منفرداً بحكم كونه صاحب القرار المباشر في معالجة المريض. ولفت إلى أن الدراسات العلمية وعلى مستوى الولاياتالمتحدة أثبتت مثلاً، أن غياب التواصل الفعال بين أفراد الفريق الطبي، أو مع المرضى يعتبر السبب الرئيس في حدوثها، مشيراً إلى أن تزايد نسبة حدوثها وطريقة التعامل معها، وضياع الحقوق بعد حدوثها سواء للمريض، أم للكادر الطبي عند ثبوت براءته أمور توجب النظر الدقيق، وعقد ورش عمل احترافية، وأخذ الكثير من الإجراءات لضمان تحسين هذا الوضع. ولفت إلى أن الاخطاء الطبية تفتقر الى إحصاءات دقيقة حول نسبة حدوث الأخطاء الطبية وتنوعها، ودرس أسبابها، وقال: «عدم حرصنا كعاملين صحيين في توثيقها، إما لعدم إدراكنا لأهميتها، أو خشية التفسيرات السلبية، إضافة إلى فشل كبير في تسخير برامج التعليم الطبي المستمر بالمستشفيات لتصحيحها، بسبب عدم الاستفادة من تقارير المرضى، والوفيات التي يجب على كل مستشفى إعدادها، وتقارير الحوادث كمؤشر لتحديد الحاجات التدريبية للعاملين بالمستشفى، وإجراء دراسات ميدانية للمقارنة، وتحليل نتائج وتأثير برامج التعليم المستمر». وأكد أن غياب آليات التواصل الفعال بين الطواقم الطبية والمرضى وذويهم، يشكل عاملاً مهماً في تضخيم تلك الأخطاء وعدم فهمها وإدراك حقيقتها، مشيراً إلى أن ذلك أدى إلى كثرة القضايا الطبية، إذ ازدحمت بها اللجان المختصة، إضافة إلى طول اجراءات وجلسات التقاضي. وأضاف أن النتائج يكون لها تأثير سلبي متراكم بصرف النظر عن الحكم النهائي، وزاد: «لعل هذا موطن يحتاج إلى بحث دقيق لدرس نمط تلك القضايا ونتائجها وأسباب تأخر البت فيها». وشدد على ضرورة تصحيح المسمى ليكون التعليم الصحي المهني المستمر، وذلك حتى لا نعزز سيطرة الأطباء والنواحي الطبية عليه، ولذلك للأسف تجد أن غالبية هذه البرامج والمؤتمرات والدورات تستهدف الأطباء، بينما نحن في حاجة ماسة جداً لتطوير برامج ودورات ومؤتمرات لتعمل بالتوازي لتطوير جميع العالمين بالقطاع الصحي، وثانياً ما زلنا نفتقر إلى الدراسات التحليلية حول تأثير تلك البرامج في أداء وإنتاجية الملتحقين بها وتأثيرها على نسبة وتنوع حدوث الأخطاء الطبية وتطور الممارسة المهنية. وأوضح أن شهادات الاعتماد أياً كان مصدرها تهتم بالتحقق من وجود بيئة صالحة لتقديم الرعاية الصحية، وعليه فهي متطلب أساس لترخيص منشأة لتقديم الرعاية الصحية، وغالبها لا يقيس المخرجات أو النتائج، وأدرك كثير من القائمين على الرعاية الصحية في الدول المتقدمة ذلك، فاعتمدوا شهادات أخرى تهتم بالتميز في الأداء، كما أن بعض القائمين على بعض شهادات الاعتماد اعتمدوا إدراج بعض مؤشرات قياس الأداء مثل شهادة الاعتماد الأميركية للمستشفيات في نسختها الخامسة، أما قضية احتفالاتنا بالحصول على تلك الاعتمادات فأعتقد جازماً بأنها تصرفات دعائية لتحسين الصورة، والمؤلم فيها ما يراه الموظف في القطاع الصحي قبل المريض والمراجع ، فكل تلك الشهادات تصبح حبراً على ورق ولا وجود لها في الواقع. وأتذكر بهذه المناسبة احتفال أحد المستشفيات التخصصية في المنطقة حاصل على شهادتي الاعتماد الوطنية والأميركية كدليل ومؤشر على جودة خدماته، بينما تنقطع المياه عن المستشفي بالساعات الطوال دورياً، ويحتاج المريض فيه لأشهر لتجرى له عملية جراحية. نظام إلكتروني لصرف الأدوية شدد استشاري طب الأسرة بمستشفى الأمير منصور العسكري ومدير البرنامج المشترك لطب الأسرة والمجتمع بالطائف الدكتور عبدالسلام الشهري على أهمية الصرف الموحد للأدوية، وقال: «أثق جازماً بأننا لو فوضنا الصيدليات الخاصة لصرف مستحقات المرضى من الأدوية، فإن تلك المؤسسات ستبادر في الإسهام في تطوير نظام إلكتروني لصرف الدواء يربطها بشبكة معلومات إلكترونية بالجهات المقدمة للرعاية الصحية، على أن يقوموا بصرف حاجة المريض من الأدوية بناء على الأوامر الطبية المدخلة، فعندها سنتغلب على إحدى المعضلات الرئيسة في القطاع الصحي من حيث معضلة نقص الدواء ونسبة الهدر العالية في ما يتعلق بإدارة توفير الدواء للمريض، مثل مشكلات المستودعات ونفاد الكميات ومعضلة انتهاء صلاحية الادوية، وسد باب المخالفات في توريد الأدوية أو خزنها بطريقة غير سليمة إدارياً وفنياً، بل في ذلك توفير كبير على القطاعات الحكومية في مصاريف كل ما له علاقة بشراء الأدوية وحفظها وإعادة توزيعها ونقلها، أو من حيث تكرار صرف الأدوية. كما أن وجود نظام تدقيق قوي سيكون هو الضابط لما قد يتصور من خروقات لهذا النظام.