ليست العتبة هي الحجر الذي نمر عليه، وليست هي الحد الفاصل بين مكانين، لكنها مركز لرؤية الحياة، ومكان فاصل بين أمان الداخل ودهشة الخارج. قد تبدو العتبة هامشيةً لأن الناس يمرون عليها! لكنها هي حجر الأساس في البناء، خصوصاً في بناء نظرة الطفل للحياة الجديدة المدهشة والمختلفة عن البيت الداخلي. النظام الشعبي القديم كان عرَّاباً للعتبات، وصانعاً لثقافتها ورموزها، وكانت العتباتُ حاضرةً في معجم العامة من الناس، سواءً في واقعهم أو أحلامهم، أو حتى تفسيراتهم للحياة ولبعض النصوص المقدسة، بل لم تخلُ أدبياتهم الغنائية والشعرية والسردية والألغاز من هذه الثيمة الثقافية المدهشة. الحارات القديمة كانت أماً حنوناً للعتبات، وكانت العتبات فيها مجالس للفقراء، وملتقى للمهمشين، ومستراحاً للمتعبين من المارة والعمال من أهل البناء والفلاحة. العتبة في الحارات القديمة بنية أساسية في تأسيس المكان، وتشكيل المعمار الوظيفي الذي يهتم بالإنسان قبل كل شيء. أتذكر في صغري أنني فتحت باب بيتنا فوجدت رجالاً يجلسون على عتبته، فأقفلت الباب وهرعت إلى جدتي لأخبرها! فأرشدتني لأقدم لهم الماء، وبعضاً من قطع الخبز "الحَمَر" الحساوي. وبالفعل استجابوا لهذه الضيافة، وقدموا الشكر الجزيل وانصرفوا، ومنها عرفت أن الغرباء الذين يجلسون على عتبات البيوت هم أصحاب حاجة، لكنهم لا يطلبونها بشكل مباشر، وجلوسهم فوق العتبة هو رمزية مضمرة لطلب الحاجة، لكن دون إهانة أو إذلال، وكان الناس يعرفون ذلك ويتفهمونه. كان لكل فئة من الناس عتباتهم الخاصة، فالشيَّاب لهم عتبتهم، والشباب لهم عتبتهم، والأطفال لهم عتبتهم أيضاً، وتختلف الوظائف لكل فئة من هؤلاء في سبب الجلوس على العتبات. فالشيَّاب يجلسون لتزجية الوقت ولسرد الحكايات وتذكر ما مضى من أيامهم السالفة. أما الشباب فيجلسون على العتبات وهم متحفزون لأي حالة من حالات الفزعة التي تُطلب منهم في الحارة على سبيل التطوع والحميّة لأنهم "نشامى" الحارة الذين يحافظون على نظامها من عبث المتطفلين والغرباء. كما لا ننسى أن لكل حارة "فتوة" خاصا بها، وهذا الفتوة هو رجل شجاع يمتلك القوة والحكمة، فيسخِّر نفسه لخدمة أبناء حارته والدفاع عنهم من أي أذى! ولهؤلاء الفتوات أيضاً عتباتهم التي يجلسون عليها مع الناس، والغريب أن بعض الفتوات قد جعل من سطوح المنازل عتبته الخاصة، خاصة في الليل! من أجل النداء والاستجابة والغوث لأي طارئ بسبب بعض اللصوص أو "الدقاقة" وهم الخارجون عن القانون ونظام الحارة فيعبثون من أجل السرقة! وما كان من ذلك الفتوة إلا أن سخَّر نفسه حارساً من خلال عتبته / سطح بيته لمراقبة من يحاول الإخلال بالنظام. العتبة في المعمار القديم هي عتبة إنسانية، وهي تحقيق لجماليات المكان وشاعريته، ومن العيب على صاحب البيت ألا يضع فوق عتبة بيته مظلة لكي تقي من يجلس عليها من حر الشمس أو رذاذ المطر. أما المعمار الحديث فقد أهمل العتبة! ولم تعد تجد لها حضوراً أو وظيفة كما كانت، بل إن بعض المعمار تعمد أصحابه عدم وضع العتبات لئلا يجلس عليها أحد يزعج أهل البيت! ولئلا يكون بيته مجلساً للعمال أو المارة والغرباء، بل تحول جلوس أي غريب على أي بيت إلى مثار للشك والريبة التي تستدعي تبليغ الشرطة لاتخاذ الإجراء اللازم. إن "العتبة" ثيمة ثقافية حاضرة - بوعي أو بغير وعي - في الحياة وفي الأدبيات الشعرية والسردية، وكلما كان المبدع واعياً بأبعاده الأنثربولوجية استطاع أن يقدم منتجاً إبداعياً مميزاً لجماليات العتبة. إننا بحاجة ماسة لسبر أغوار العتبة والعتبات في منتجاتنا الثقافية، فهل من منصة علمية أو ملتقى ثقافي يحقق لنا هذه الأمنية؟ * باحث في الدراسات الثقافية