في كتابه (ميلاد العصور الوسطى) الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بترجمة عبدالعزيز جاويد، يضع المؤرخ الإنجليزي سانت موس خطوطاً عريضة تواصلية مهمة عبر القرون الأربعة الأخيرة تقريباً التي شهدت -نوعاً ما- ارتقاء الشطر الشرقي من الإمبراطورية الرومانية -بيزنطة- إلى حكم المنطقة من ضفة خليج البسفور من عاصمتها القسطنطينية -استانبول- مع ارتخاء الجناح الغربي الذي كانت تمثلهُ روما محاطة بالإكليروس الكاثوليكي بالفاتيكان الذي كان أصلاً في حالة شقاق شبه دائم مع الكنيسة الشرقية البيزنطية، النقطة الرائعة المحورية في الكتاب هي وضعه لتاريخ الإسلام ضمن فصلٍ، محاطاً بالتراتبات السياسية والعقائدية والاقتصادية في جملة منطقة حوض البحر المتوسط، بالأخص -قطعاً- الشطر الشرقي منها الذي كان يسيطر منه البيزنطيون على غالب أراضي الدولة الرومانية الغربية تقريباً. يسرد سانت موس عبر وصف تاريخي محكم الجدل العقائدي الذي ضرب شطري الإمبراطورية الرومانية وأشعل ناراً لم تنتهِ حتى ظهور الإسلام حسب تقريره هو، فالمجامع المسكونية الكنسية منذ مجمع نيقية (325م)، ثم القسطنطينية (381م)، ثم مجمع خلقدونية (451م) أثارت الخصومات وانتهت في مجملها بقمع دموي عنيف من قبل البيزنطيين للمذهب الآريوسي الذي راج في مصر وسورية، وهو مذهب ذو طبيعة توحيدية. اقتصادياً، أثقل البيزنطيون كاهل السكان في سورية ومصر -اللتين كانتا من أهم أقاليم الإمبراطورية الشرقية- بالضرائب، ينضم إلى ذلك ما استشرى من الفساد الإداري والتنظيمي في داخل العاصمة بالقسطنطينية مما أدى إلى ثورة شعبية عارمة ضد الإمبراطور جستنيان تعرف بثورة نيكا (Nika) قادتها حشود غاضبة ومطالبة بالتغيير وبكف الفساد والمحاباة التي انتظمت بدواوين الدولة، ربما خمدت الحركة نسبياً لكن الجذوة ظلت في قلوب سكان الإمبراطورية حتى ظهور هرقل، إذ نقل سانت موس من تراجم الرهبان الأقباط المصريين فرحهم بما حلّ بالبيزنطيين من هزائم على يد سرايا الإسلام الفاتحة. المحور الاقتصادي له بالطبع تأثيره في ردة الفعل، يستصحب كذلك المحورالعقائدي حيث سعى البيزنطيون قهراً إلى محاربة المذهب الآريوسي (المونوفيزيتي Monophysitism) المعروف بمذهب وحدة طبيعة المسيح بكل من مصر وسورية تمريراً لمشروع الرؤيوية الدينية البيزنطية، يضاف إلى ذلك الوضع الجيو-سياسي في المنطقة، إذ على الجانب الآخر انتصبت الإمبراطورية الفارسية خصماً عنيداً موازياً لبيزنطة عبر تخوم ممتدة ومتشابكة من حوض نهر الفرات حتى وسط آسيا الصغرى، على مدى عقود طويلة شهدت الأطراف والثغور المتماسّة صدامات عنيفة بين فارس وبيزنطة توجت بسقوط دمشق في يد الفرس (614م) ثم بيت المقدس بعدها بقليل، لكن هرقل استطاع حشد الشعوب المسيحية في حملات متتالية حتى كان عام (626م) نقطة تحول عسكرية فاصلة، سحق البيزنطيون الفرس نهائياً واستولوا على قصر كسرى وعقدت معاهدة استردت بيزنطة بموجبها كل أقاليمها الضائعة. يستطرد سانت موس (ص/236): "والواقع أن ذلك آخر نصر أحرزه العالم القديم، فالدولتان الفارسية والرومانية أصابهما الدمار بعد هذا الصراع الذي أودى بهما، ورقدت ولايتهما الضعيفة النازفة والثائرة المتمردة مفتحة الفجاج للفتح الإسلامي، الذي قدر له أن ينبجس من الصحاري العربية في بضع سنين". جملة الاستدلال السيمائي أن تموضع الواقع الإستراتيجي، السياسي، والاقتصادي، والعقائدي، والثقافي، كان بحاجة إلى دماء جديدة وروح متدفقة ظهرت مع انبلاج فجر الإسلام من ربوع جزيرة العرب، من أفياء تهامة ونجدٍ والحجاز، كقوة تعيد تصحيح مسار التاريخ المبعثر والملتوي وترفع الظلم الفارسي والبيزنطي عن إنسان المنطقة، ثمة بالطبع تراتبات جيو-سياسية ومصيرية تصل حاضر المنطقة بماضيها، وفق ذاتِ النقاط التي حددت مسيرها من قرون طويلةٍ خلت.