استلمتُ هذا العام حوالي مائة وعشرين كتابا من أفرادٍ، ومن جمعيات، ومن أندية الكتب.. بعضها أجمل ما بها جُمل الإهداء. وجدت البعض يتذمرون أن التأليف صار صنعة من لا صنعة له. أحد النقاد قال: «أطفال وصبية يكتبون؟ قل لي، ما هو مخزونهم الفكري طالما لم يكتمل عندهم حتى المخزون العمري؟». وقرأتُ لمن قال: «كتب التفاهة في كل مكان». هل كلام هؤلاء النقاد صحيح؟ قد يكون صحيحا ببعض الوقائع، ولكن هل النزعة للتجربة الكتابية لهؤلاء «الصبية!» خطأ، أو محرّمة فكرياً، دعك أن تكون مخزوناً ثقافيا؟ ويقصدون بالصبية والأطفال المؤلفاتِ والمؤلفين الشباب الصغار السن. وقد ظهر انتاجهم بازغا ووافرا. أدّعي الكلام بحياد، خصوصا أني لم أطبع أي شيء أو أنشر مما ألّفت وكتبت وبحثت، وبقيَتْ في أدراج عميقة، منع نشرَها ترددٌ مني بلا أمرٍ مقنع، ولكن جملة: «أنشر مؤلفاتك» تفرحني أحيانا، وتحمسني، وقام عدد من المحبين بجمع مقالات لي متخصصة ووزعوها على كتب، أو زوايا وأبواب كتبتها بالجرائد والمجلات، وطبعَت احداهن خلسة ثماني حلقات من قصة أكتبها بعنوان: «صندوق الهند». ثم في لحظة الحقيقة أتراجع. تحمست لتاريخ علم الرياضيات وأنهيت به بحوثا، وباللغة وبمظاهر الفلك من الملاحظات الفيزيائية الكونية، وأسميها ملاحظات لأن كل ما يبدو من مظاهر الكون حدث قبل وجودنا بمليارات السنين، وما نعرفه من نظريات ليست حقائق الحتم، هي استنتاجاتٌ لعقولٍ جبّارة مستخدمةً علمَي الرياضيات والفيزياء والآن الهندسة الفضائية.. أوه، أبعَدت. لأعُد مرة أخرى للأرض. هذا الحياد يجعلني أحكم على أن ما يكتبه الأطفال والصبية ليس محرّماً بالتأكيد، وليس لزاما أن يتأذى منه حسُّ نقادٍ محترفين، أو كتابٍ ومثقفين كبار. برأيي أن أي نزعة للقراءة مفيدة، وأن أي نزعة للكتابة مفيدة.. ولكن أن توجَّه هذه النزعاتُ. وكان هذا ما وددت أن يعمله النقاد والمثقفون عوضا عن الوصف السلبي الذي يؤدي إلى لا شيء. ردّدتُ كثيرا من المسودات لبعض الكاتبات والكتاب الشباب التي بعثوها لي، فقد تجد المادة جيدة لكن لا نفح ولا رائحة في الجمل المصفوفة، أو تكون خالية ضعيفة في الاعراب والإملاء.. ثم أن ظاهرة الأخطاء الإملائية صارت هي القاعدة.. منها مسودة كتاب عنوانه: «خطئاي ويقضتي»، ويقصد المؤلف: «خطئي ويقظتي»، وكتبت له كيف تجرؤ أن تعد كتابا عنوانه خطأ فادح؟ ونصحته أن يعود لقراءة قواعد اللغة والرجوع للمقامات للاستزادة من الجزالة الكتابية. طبعا هناك المصححون، وهنا الحاجب الكبير الذي يمنع أن نرى أخطاء الكُتاب صغارهم وكبارهم.. المصححون أحيانا يكونون هم الكتاب الحقيقيين يحجبهم سطوع من يصحّحون لهم. أخبرني أحد رؤساء التحرير أن واحدا من الكتاب المتخصصين المشهورين، تُعاد صياغة كامل مقالاته لفحش الأخطاء اللغوية والقواعدية والإملائية. لا يسخر الكتاب والنقاد الكبار من الصغار والصبية فلا نعلم فعلا هم كيف يكتبون؟ وليتهم يفرحون بالجرأة في النشر-التي أفقدها- ويتبنون هؤلاء الكتاب، ويوجهونهم.. وأطالب الكتابَ الشباب ألا يغرقوا كثيرا في التأملات، أو الشعر المنثور، والقصائد الرومانسية، والقصص العادية. وأتمنى عليهم الكتابة المتخصصة ذات الفائدة، فإذا كنت طبيبا اكتب رواية أو قصة أو مقالة تمزج بها العلم الطبي، فيستفيد القراء مرتين، وكذلك المهندس، والمحامي، والمحاسب، والمعلم، وحتى رئيس الشركة.. هذا النوع من الكتابة سيكون فتحا جديدا، وسيحب صاحب التخصص العالَم الذي سيخوض به، ويجوّد لغته له. وسيعجب الجميع حينها بتلك الموجة التأليفية الشبابية الجديدة.