في الخامس والعشرين من يناير الماضي لهذا العام، جرت الانتخابات التشريعية البرلمانية في اليونان وسط أجواء عاصفة واستياء شعبي عام على سياسة التقشف التي أقرتها ونفذتها الحكومة خلال السنوات التي تلت اندلاع الأزمة ومثلت اليونان قمة هرمها. كانت اليونان الأكثر تضرراً ومعاناة كدولة وشعب من بلدان المجموعة الأوروبية التي أملت شروطاً قاسية على القروض المقدمة لإخراج اليونان من أزمتها لتدخل اليونان في كوارث اقتصادية واجتماعية متنامية. تحول اليونانيون إلى فقراء وعمت البطالة وتراجعت كل الخدمات في جميع القطاعات بشكل مأساوي. حصد حزب سيريزا - اليسار الراديكالي - نتائج هذه الانتخابات بحصوله على 149 مقعدا من 300 مقعد هي مجموع مقاعد البرلمان. لم يحتج الرئيس المكلّف لائتلافات أكثر من حزب اليونانيين المستقلين اليميني الذي حصل على مقعدين في الحكومة الجديدة . منذ تأسيسه في عام 2004 شكل فكر الحزب وممارساته موضوعاً مثيراً للجدل في اليونان وفي العديد من بلدان أوروبا الغربية وتحديداً في اسبانيا والبرتغال وحتى فرنسا . حول ماذا يدور الخلاف ؟ الخلاف يدور أولاً عن يساريته ودعاويه ضد الاتحاد الأوروبي، بل وضد النظام الرأسمالي وانحيازه للعمال وكل القوى المهمشة وضد الطبقة السياسية الفاسدة برمتها. هذا الاتجاه الراديكالي الذي يبدو متعارضاً ليس فقط مع اليمين الجمهوري، بل ومع اليسار التقليدي، أضافت عليه نتائج الانتخابات الأخيرة نسبة كبيرة من المصداقية لم يبخل الزعيم وإدارة حزبه في تعزيزها بمناسبة ودون مناسبة. وبما أن الحدث في قلب أوروبا حيث لا توجد مسلّمات لا في الفكر ولا في السياسة، وإنما عمل يومي دؤوب تحكمه مصالح الحكومات والأحزاب السياسية يمينية كانت أم يسارية، لم يمض سوى يوم واحد على وصول حزب سريزا إلى سدة الحكم، حتى بدأت "المراجعات" لدى جميع الفرقاء بمن فيهم الرئيس السيد ألكسس سبيراس لإعادة تقييم الواقع والمستقبل. خطابات وشعارات الأمس يمكن معالجة "ثغراتها " . الرئيس الفرنسي هولاند الاشتراكي التقليدي يتصل في اليوم الثاني بالرئيس اليساري الراديكالي اليوناني الذي وصل على أنقاض رفاقه الاشتراكيين اليونانيين ويدعوه لأن تكون باريس أول محطاته الخارجية. التصريحات الاستعلائية للمستشارة الألمانية أنجيلا مركل ليست صارمة كما كانت تجاه ديون اليونان. الترويكا الأوروبية - البنك المركزي الأوروبي، صندوق النقد الدولي، المفوضية الأوروبية - وكل ( حكماء ) الاتحاد الأوروبي ينادون ليس فقط للحوار حول جدولة ديون اليونان، بل لإعادة هيكلة المعايير التقييمية لأداء الحكومات وما قد يستدعي نوع ( خطة مارشال ) عصرية للوقوف أمام أخطار قد تطال كل منجزات الاتحاد الأوروبي. أما فيما يخص الرئيس الراديكالي وكيف سيتراجع عن "راديكاليته" فهو كفيل بإعادة إنتاج نفسه عبر العودة لجوهر ما كان ينادي به كأوروبي يطالب بالإصلاح ليكون الاتحاد في وضع "أفضل". قبل عام واحد من وصوله للحكم، في فبراير 2014 وفي أحد حواراته في إيطاليا قال : الأزمة في اليونان هي نتيجة نموذج تنمية يعتمد على الاستهلاك المفرط مع الاقتراض ؟ تلك كانت حجة صقور الحكومة الألمانية الموجهة ضد اليونانيين . سبحان مغير الأحوال .. لا .. الأحوال لم تتغير ، اليوم يعلن الرئيس الجديد استعداده لمباشرة المفاوضات مع الألمان ومع الترويكا الأوروبية ليس لشطب الديون، بل لمعالجتها بالجدولة وشروط عادلة والجميع يوافقه على ذلك ولابد من حل لأثينا في إطار الاتحاد الأوروبي لأن خروج اليونان من المجموعة الأوروبية قد يفجر منطقة اليورو وفضاءها وتطال الكارثة الجميع. سريزا وحزبه ليسوا راديكاليين وليسوا أعداء لأوروبا وإنما دعاة إصلاح لنظام أوروبي متعثر في ظروف الأزمة الأكثر عمقاً التي تضرب أوروبا والعالم كما يقول باسكال ريشي في مجلة النوفل أوبسرفاتور الفرنسية. ما حدث في أثينا في الخامس والعشرين من يناير هو "إبرة علاج ديمقراطية معدية" على يد إصلاحيين مجددي الراديكالية بنكهة يسارية على قضبان سكة الاشتراكية الديمقراطية. ليس هناك إصلاح راديكالي. * باحث سياسي