الحسد العدو اللدود للنعيم، فلا يطيقان الاجتماع، فهو نارٌ إذا اشتعلت في صدرك كان وقودها النعم التي حباك الله بها، فتلتهم كل ما تأتي عليه من سعادتك وهنائك وراحة بالك. وهو سببٌ عظيم من أسباب الشقاء، فقد أخرج إبليس من ملكوت النعيم وطرده من رحمة ربه. وإذا أصاب العبد وغلب على قلبه وتفكيره، فهو مخرجه لا محالة من ملكوت الطمأنينة والرضا. الحسد يجعل الأسباب التي تصيب العبد بالشقاء كثيرة، بكثرة النعم التي يتفضل الله بها على عباده، فكلَّ ما وقعت عينه على نعمة على أحد، شعر بالألم والحزن. ولك أن تتخيل حال الإنسان الذي أسباب شقائه بهذه الكثرة والتنوع، تحيط به في يومه وليلته، وتلاحقه في محل عمله، وفي محيط عائلته وقرابته، وفي الشارع، وفي السوق، ومع زملائه وأقرانه. وهكذا يتحول كل شيء يحيط به إلى سببٍ من أسباب البؤس والشقاء، ويصبح الناس أعداءً له؛ لأنهم في نظره يُلحقون به الأذى، فهو بسبب ارتفاع حس الغيرة والحسد لديه يتعامل مع كل ثناء يسمعه عن غيره، كما لو كان شتيمة موجهةٌ إليه شخصياً، وكل حديث عن النجاحات والإشادة بها فهو في نظره تذكيرٌ له بفشله وعدم قدرته. فهو إما مضطر للعيش مع هؤلاء الأصدقاء الأعداء، الذين يسيئون إليه دون أن يعلموا - وليس أبأس مِنْ أن تعيش مع أعدائك، فالكراهية والحقد والتوتر هم سادة العلاقة - أو لا يزال به الحسد حتى يعزله عن الناس، علّه أن يجد في العزلة المحيط الذي يخلو من أسباب الشقاء وهم الناس ورؤيتهم. وهكذا يقود الحسد إلى مصيرين بائسين: إما الكره والحقد، أو الوحدة والبعد عن الناس، كحال السامريّ الذي علته لا تطيق القرب من الناس، فعاش بعيداً عنهم حتى هلك ومات. هذه النيران المتقده في صدور أصحابها، لا بد لها من علاج، فلكل نارٍ ماءٌ يطفيها. والحسد داءٌ، وما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء. ونحن لسنا في منأى من أن يلحقنا شيءٌ من هذا الداء، فهو غريزة موجودة في نفوس البشر تضغف وتطغى؛ ولذلك قيل: لا يخلو جسدٌ من حسد، لكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه. ونحن إذ نقاوم الحسد من نفوسنا، ولا نستسلم له؛ فإنما ندفع عن أنفسنا قدراً كبيراً من الشقاء، فهي معالجة من أجل نفوسنا وسعادتها. ومما يخفف من غلواء ما تجده النفوس تجاه الآخرين، أن نتذكر فضل الله العظيم، وأن ما عند الله لا ينفد. الحاسد ينسى هذا الفضل العظيم، ويظن أن هذه النعم التي تصيب غيره لن تصيبه. يجب أن نجعل من النعم التي نراها على الآخرين دليلاً على أن رحمة الله ستصيبنا مثل ما أصابتهم، فنحن خلقه كما هم خلقه، بدلاً من أن تتسبب في غمنا وسوء ظننا بربنا. النجاح والمال والعلم والمناصب وكل فضلٍ وخير، ليس نسخة واحدة حتى نغتم إذا ذهبت لغيرنا، وكأنها فاتت علينا للأبد. ستأتيك نسختك الخاصة بك، بل وربما سيصيبك أعظم مما أصابهم. وكذلك يجب أن نتذكر أن الحسد طاقة شيطانية سلبية، فالاسترسال معه، أو الاستجابة لما يمليه علينا من إلحاق الأذى بالآخرين، لن يفيد شيئاً، وسيذهب كل ذلك هباء منثوراً. فالحسد لن يأتي لنا بما في أيدي الناس من النعم، ولن يحرمهم منها، فإن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً (فلا راد لفضله)، فإن الله يصطفي من يشاء من عباده بالفضل والخير عن علم وحكمة، ولا يمكن للحسد أن يقف أمام مشيئة الله. أتذكر قصة إخوة يوسف، وكيف أن كل الكيد الذي كادوه له، لم يزده إلا رفعة، ولم يحل ذلك دون أن تصيبه رحمة ربه التي أرادها له (كَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ.. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ.. وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). فما أجمل أن نعود أنفسنا إذا رأينا على أحدٍ نعمةً فضله الله بها، أن نبادر بالاعتراف له بهذا الفضل، فإننا إن بادرنا بذلك فسيكون بعزة أصحاب النفوس العظيمة والأخلاق الكبيرة، وإلا ربما اضطررنا أن نقوله فيما بعد بانكسار المخطئين، والمعترفين بالذنب والفضل على حد سواء (قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ). وكذلك بإمكاننا في أثناء مواجهتنا لهذه الآفة الخطيرة، أن نحولها إلى طاقة إيجابية. أي أن يُحفَزنَا ما نراه على الآخرين من نعم إلى أن نصنع مثل صنيعهم، ونحقق نجاحنا الخاص بنا. فلسنا أقل منهم موهبةً وذكاء، لكن طاقاتنا ومواهبنا ستذهب سدى إذا انشغلنا بمراقبتهم والتربص بهم. أن نحول الحسد إلى طاقة منافسة، فهذا من شأنه أن يفجر مواهبنا وطاقاتنا؛ لأن المنافسة من شأنها أن تصنع الإبداع. عندها سننشغل بالرضا عن أنفسنا، والفرح بما حققناه، عن النظر إلى ما في أيدي الآخرين. وبمثل هذا نسطيع أن نستبدل بدل الحزن فرحاً، وبدل الحسد إبداعاً، وبدل الكره حباً.