الفصام مرض نفسي خطير ، فإذا أصاب الفكر فسوف ينعكس هذا على أصحابه بالسوء . لماذا أصيب الفكر العربي المعاصر بهذا المرض؟ هل بسبب التحديث؟ ما طبيعة الإصلاحات والتحديثات في الإمبراطورية العثمانية؟ ثم في سوريا ولبنان ومصر ؟ كيف دخلت العلمنة والحداثة الغربية ؟ كيف احتدمت أزمة الهوية في غياب المرجعية القومية وفي ظل تأسيس أحزاب متطرفة؟ هل الحزب الواحد والنظام الاشتراكي يحل المشكلة؟ هذه التساؤلات وأمثالها نجدها في كتاب "الفصام في الفكر العربي المعاصر" للكاتب غريغوار منصور مرشو ، الذي صدر حديثًا عن دار الفكر في دمشق السورية الذي يرى فيه المؤلف ضرورة قيام مجتمع حضاري لحساب نظام فكري جديد مبدع. كما يعالج المؤلف في هذا الكتاب مشكلات الفصام الفكري والثقافي الذي أصاب الوطن العربي والآثار المادية المترتبة على ذلك في المجتمع الحديث، ومن أهمها انشطاره إلى معسكرين متناحرين، حداثي وسلفي. جاء الكتاب في قسمين، تناول القسم الأول عبر ثلاثة فصول: المسارب الفكرية والعملية، التي تحول فيها ومن خلالها النموذج الغربي المستبطن في وعي النخب العربية الجديدة، إلى وقائع وتحولات شكلت ما سمي عصر النهضة والإصلاحات وبناء الدولة الحديثة. وقد بدأت هذه التحولات أولاً في الدولة العثمانية، التي عاشت عددًا من التحولات السياسية والعسكرية، والاجتماعية والاقتصادية والحكومية، منذ عهد السلطان سليم الثالث (1789-1807) حتى عهد السلطان عبدالحميد (1876-1909). ويستعرض المؤلف عددًا من هذه المسارات، التي لا تُمثل بذاتها مؤشرات مستقلة بقدر ما تمثل المسار الذي تعمقت فيه آليات وأدوات الهدم لكل البُنى القديمة، على مستوى الاقتصاد والاجتماع والبناء الحكومي، ليس لخدمة وتطوير هذا الكيان، وإنما لزيادة فرص الهيمنة الاقتصادية والسياسية عليه من قِبل الدول الأوروبية، لا سيما أن هذه التحولات كانت تتم في إطار ما يسمى استبطان النموذج الغربي، وفي ظل تنامي رغبة قطاعات واسعة في التقليد الأعمى للغرب. وقد قاد ذلك إلى ولادة فئة تعلن عن هوية جديدة في قلب المجتمع العثماني، عبرت عنها المجموعة الكمالية بقولها : نحن أوروبيون، وهذا هو انتماؤنا بالإجماع كلنا. هذه العبارة على لساننا مثل جوقة النشيد العسكري المثير على نحو خاص، وعلى شفاه الفقراء والأغنياء، والشباب والشيوخ. أن تكون أوروبيًا هذا هو مثالنا. في المشرق العربي، كان محمد علي قد وضع نصب عينيه شعار بناء الدولة الحديثة كحل للواقع المتردي، الذي تكشفت عنه أحوال البلاد بعد الغزو النابليوني لمصر . وإذا لم يكن في هذا الشعار ما يعيب؛ فإن أدوات محمد علي لتحقيقه أدت في المحصلة إلى فشل هذا المشروع، وإلى وضع مصر تحت هيمنة ووصاية الدول الأوروبية. لقد رأى محمد علي أن الواقع مغرق في الانحطاط، فقرر قطع صلته بالموروث الثقافي والاجتماعي والاقتصادي المحلي، وعمل على استجلاب نماذج وحلول جاهزة، عبر الاستعانة بالأوروبيين ممثلي النموذج الحضاري والتقدمي الذي كان يسعى إليه، وصاغ محمد علي كل مشروعاته الزراعية والصناعية بما يتواءم مع ضرورات ومتطلبات الاقتصاديات الغربية . وعلى هذا ظلت مسيرة التحديث التي انتهجها محمد علي غريبة، ومعزولة عن الواقع الاجتماعي والثقافي المحلي، بل وربما متعارضة معها إلى حد كبير، لكن الأثر الأكبر لإصلاحات محمد علي كان على مستوى تعميق التبعية الفكرية والثقافية للغرب، نتيجة للتدريب المنهجي للنخب المبهورة بالغرب والمدجنة لصالحه، التي شكلت قنوات وأدوات الهيمنة الثقافية للمستعمر في المنطقة. بينما في الفصل الثاني يتوقف المؤلف أمام عدد من ممثلي هذه النخب الجديدة، وهي برأيه نخب مغربة مقتنعة بعالمية النظم والقيم الثقافية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية الغربية إلى حد كبير . ويتوقف بنا مع رفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين، وأديب إسحق، وفرنسيس المراش، وفرح أنطون، وغيرهم ممن عمل على التأسيس لاستنبات النموذج الغربي في البيئة العربية، وهو يقدم لنا أنماطًا من تلك النخب بعنوان «المرآة هو الآخر» التي يتماهى فيها الآخر المتخيل في وعي ممثل النخب الجديدة، بما كان يجب أن تكون الذات عليه.