علي.. أراك تكلفني من أمري عسراً.. حين تطلب ما لا أطيق عليه صبرا. .. و يكأنك تحاول مقاومة وطأة السنين. نعم.. فالمشهد المتقاطر من غيوم الذاكرة، يبدأ الآن في الانكشاف.. وها هي صور العمر المنفلت تتهاوى على بعضها.. يلمع ضوء من بين ركام هزيمة 67.. وقد بدأ الوعي يتشكل.. كان يحدونا أمل، هذا الذي تماوج بالحلم الكبير مع اندفاع حركية الابداع، وأطروحات الفكر، ومعترك السياسة في العالم العربي.. الشعر كان الفرس المجنح بالهموم والآمال.. القضايا والتجارب. كم من الحبر سال على مآقي النكبة في فلسطين.. والعرب يطلعون طلوع المنون على بني صهيون.. فما كانوا هباء.. ولا كانوا سدى.. كما عبّر علي محمود طه برومانسيَّته الفاتنة، التي لم نرَ صداها المتمرد، إلا في بروق شعراء الأربعينيات، ورعود فورة الخمسينيات، ورؤى شعراء الستينيات، وإحباطات شعراء السبعينيات، وتجريبية شعراء الثمانينيات الميلادية، بحثاً عن لغةٍ شعرية جديدة، بعدما استنفدوا طاقات أسلافهم الفنية، بتراكيب أسلوبية جديدة، زاوجت بين خطوط التشكيل، وتراكيب الصور، ورموز الأساطير، وتقنيات التصوير بمختلف أبعاده السينمائية والضوئية.
لا تقُل لي على سبيل المثال: إن محمود درويش كان نسيج وحده، وهو على قلق كأن رياح الاغتراب تقلّبه ذات الأساطير التوراتية تارةً.. وفرادة المتنبي تارةً أخرى.. وبينهما كان يسكب موهبته في خلطةٍ شعريةٍ مفضوحة، من رومانسية علي محمود طه، وخطابية إبراهيم طوقان، وجمالية نزار قباني، ولغة أدونيس الشعرية، التي اصطنعها لنفسه، بعد قراءة متعمقة للشعر العربي قديمه وحديثه، مروراً بالشعر الفرنسي واقفاً عند سان جون بيرس، متخذاً من مواقف النفّري، منطلقاً في التفلت من ربقة التنميط الشعري. غير أنه لم يوفق في التعبير بها! إلا حينما يكون أمام مأزق وجودي ماثل، فكان اجتياح إسرائيل شوارع بيروت 1982م، بحثاً نيرونياً عن كل ما هو فلسطيني، مقاوماً كان أو شاعراً أوحتى كاتبا! فجاءت رائعته (سنبلة الوقت).. تماهياً بين ذاته ولغته، قضيته وشعره.. ولأنه حداثي بامتياز فقد اشتغل على أناه الشعرية، مختوماً برحيقه، ومغلقاً على فهمه، ولم يفضّ بكارة النص الأدونيسي سوى محمود درويش في رائعته "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا "، وبهذا جهّز درويش مطية أدونيس الشعرية، ذات الصور المبهرة فطاف بها شوارع المدن وأزقة القرى في العالم العربي، حاملاً قضية العرب الكبرى، التي لم تجد أصداءها إلا في أَخيلة الشعراء وصورهم، حتى كادت تتلاشي مع تلاشي الاهتمام بالقضية الفلسطينية، بعد زيارة السادات المشئومة للقدس سنة 1977م.
على أي حال، لم يكن محمود درويش الشاعر العربي الوحيد الذي اُفتتن به جيلنا، خاصة بعد حصار بيروت.. فسعدي يوسف قد فتننا بمحنة اغترابه "الجزائري" في "أخضره" منشغلاً عنا بمحاولة "عبور الوادي الكبير" باحثاً "عن خان أيوب" في دمشق.. فلم يدله أحد! وهل يحتاج الإبداع إلى دليل ؟! هذا سؤال فلسفي طويل، ممتد من شعراء أثينا الملحميين، مروراً بشعراء العرب الجاهليين والأمويين والعباسيين، وصولاً إلى شعراء أوروبا وفنونها منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا.. حيث تقف الإنسانية اليوم على مفترق حروب الأصوليات، وحوار الحضارات.. صراع القوى الكبرى، وتداخل الثقافات، وعولمة القيم، وعلمانية المعرفة، وتدفق المعلومات، وثورة وسائل التواصل.. لقد قطع عليّ الاسترسال استكمال المشهد.. فها هو صوت الأثير يحمل إلينا من على منبر المربد صوت مصطفى جمال الدين العراقي متوسماً بوريق عمر بغداد الاخضر، وقد اشتبكت عليها أعصر هولاكية وأمريكية وإرهابية بأعاصيرها الدموية.. في حين انطلق صوت عبدالله البردوني من على ذات المنبر، يغني مليحته التي تعاور عليها عاشقاها السل والحرب، ميتةً في صندوق وضاح اليمن.
على هذه الخلفية، أخذ المشهد يتشكّل.. وقد التقيتك ذات يوم. ممتطياً حصان المدينة الناري، حاسر الرأس، جنوبي الإهاب، فياض المشاعر، وامقاً بالأمل. كان اسمك قد تناهي إليَّ على ألسنة زملاء دراسة قطيفيين، ممن انضموا إلى سلك الدراسة في كلية البترول، قبل أن تصبح جامعة.. وبما أنهم قرنائي فإن الشعر ما انفك عنا منذ تفتحت مداركنا الصغيرة عليها في مجالس آبائنا.. فجاء أولئك يبشرونني بميلاد شاعر ينطق باسم الكلية، وهي قبيلتك- البديل- في احتفالاتها ومناسباتها.. وفي رحلة عمل لجريدة اليوم، أوائل السبعينيات الميلادية، قابلت في الرياض أبرز رموزها من أدباء المملكة وشعرائها.. عبدالله بن خميس.. عبدالعزيز الرفاعي.. حسن عبدالله القرشي.. عبدالله بن إدريس، طفق الأخير يسألني عنك مستبشراً بميلاد شاعر.
تكررت بعدها لقاءاتنا في مقر مطابع جريدة اليوم وتحريرها عند سكة الحديد.. وقد انضممت إليها وصديقنا القاص جبير المليحان، مصححَيْن لغويَيْن، نقضي الليل حتى هزيعه الأخير، في متابعة إصدار الجريدة، التي تصدر يوماً، وتنام يوماً أو اثنين أو ثلاثة، قبل أن ينتظم صدورها بعد مجيء محمد العجيان رئيساً لتحريرها، من مديرية تحرير جريدة الرياض، عندما غادر خليل الفزيع الدمام لرئاسة تحرير مجلة العهد في الدوحة بقطر. وفي أماسي جريدة اليوم وقت ذاك، كانت أسمارنا فيها تندلع بالحوار، عن قراءاتنا دواوين الشعر العربي الحديث، ومتعلقاتها من الكتابات النقدية، في مجلات الآداب والشعر والأسبوع العربي اللبنانية، هذه التي كان محمد العلي يتداولها في كتاباته اليومية، وقد تغايرت أسماء زاويته في الصفحة الأخيرة من الجريدة بين "أمام المرآة" و"بُعد آخر" و "كلمات مائية".. كانت ضحكاته المدوية في أسماعنا عنوان وصوله مبنى الجريدة، متأبطاً مقالة القصير.. مشدودين إلى شخصيته الجاذبة، هذه التي لامستها في صباي، وهو يحط مع أبيه واثنين أو ثلاثة من بني عمه، بيننا في بيوت الأسرة في القطيف، شتاء كل عام، لتقاسم عوائد الوقف الذري السنوية من النخيل.. ومرة أخبرني أبي- رحمه الله- مؤاخذاً محمد العلي استعارته كتاب "الموازنة بين الشعراء" للدكاترة زكي مبارك دون أن يرده إليه. هذا وقد تنامت سمعة العلي إلى أسماعنا من بعد، على ألسنة نفر من الطلبة القطيفيين في مدرسة الدمام الثانوية، معجبين بفرادة أسلوبه في تدريس مادة الأدب والنصوص، والتماع تعليقاته النقدية، هذه التي بدت جلية بروئ جديدة في مقالاته بجريدة اليوم، اتساقاً مع تجربته العراقية في العلوم الدينية واللغوية والشعر والأدب والسياسة، وقد أرسله والده لدراسة العلوم الحوزوية في النجف الأشرف آخريات الأربعينيات الميلادية.. إلا أن محمد الهجري– وهذا هو اسمه المتعارف عليه وقتها– اطّرح العمامة تأسياً بأستاذه الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، وقد فعل بها الأفاعيل حسبما ذكر في مذكراته، وتجلت في قصيدته الهائية الرجيمة، وهو ينتقل من "محافظة" النجف، إلى "انفلات" بغداد ؛ وقد حقق فيها بغيته من الانضمام إلى مجتمع الأدب والشعراء والسياسيين، وهو ما فعله العلي متراوحاً بين النجف وبغداد، حتى حصل على إجازة جامعية في اللغة والأدب، وكان على أبواب التفاعل مع تيار الشعر الجديد، عندما لامسه- بدءاً- بشاعرية علي الشرقي، التي اُفتتن بها العلي كثيراً دون أن يلمّح إلينا بذلك!! بل أحسب أن جذور الانتماء القومي والبعثي عند العلي قبل قفوله راجعاً إلى الدمام، وتحوله نحو الماركسية، سوف نجدها في أطاريح علي الشرقي، وكتاباته النثرية. على أن أحد مصادر التمرد في شخصية محمد العلي.. قيام والده بالتضييق الديني عليه.. ومحاولة حرمانه من تعاطي الشعر وقراءته، خاصةً الشعر الرومانسي، اعتقاداً منه، بأنها سوف تصرف ابنه عن التفرغ لدراسة العلوم الحوزوية، وهو التوجس الذي دفع العلي للانغمار في الشعر العراقي– الحديث خاصة– بل قاده ذلك إلى خوض التجارب الايدلوجية والسياسية المتقلبة، التي لاحقته بعد عودته إلى بلاده، في النصف الأول من عقد الستينيات الميلادية، ليحدث من حوله ضجة أدبية، تحلّق حولها نفر من الشباب المتطلع نحو أفق، وقد تلفّع بالأمل.
لم يكن علي الدميني وحده من تحلّق حول العلي.. فغيره آخرون من مكونات المجتمع السعودي التي تشكّلت في مدينة الدمام في سنوات ما بعد اكتشاف النفط، إلا أن الدميني كان أكثرهم افتناناً بشخصية العلي الجذابة، رغم تقلب مزاجها.. وشيئاً فشيئاً، وتجربة بعد أخرى، أصبح العلي يجد في الدميني ضالته. فهو تلميذه النجيب، وصديقه المقرب، وراويته في المجالس والمسامرات، ورفيقه في السراء والضراء ؛ فجاء إعجاب الدميني بشاعرية العلي، بسبب فرادتها على الساحة السعودية.. وهي شاعرية فذة لو تفرغ لها العلي، لأصبح واحداً من أبرز شعراء العرب الحديثين، لولا كسله الذي يتباهي به ! وهو كسل جعله ي "كبسل" قراءاته وآراءه في زاويته الصحفية، مبدداً بكتابتها يومياً، طاقته الشعرية، واستعداده الهائل للنقد الأدبي. وفوق ذلك، فإن التزام العلي الأيدلوجي، صير التلميذ لأن ينصهر بالأستاذ في مواقف متماهية من الفكر والشعر.. من هنا يجيء افتتان الدميني بالتجربة العراقية في الشعر العربي.. وإلا ما الذي يدفعه لتسمية ملحق اليوم الأدبي- وقد تولى الإشراف- عليه ب "المربد" لا "دراين" أو "هجر" وكلاهما سوقان قديمان للشعر قريبان من مكان صدور الجريدة التي تصدر الملحق ؟! سوى الرغبة في التماثل.. وقد وجد العلي فيما يبدعه شعراء العراق الجدد، إحياء لذاكرته الشعرية التي تشكّلت بين مدرسة النجف الخليلية، ومدرسة بغداد التفعيلية. وهكذا بشَّر على الدميني في "مربد" اليوم بما يتدفق به العراقيون من وعي جديد، وشعر حديث في قصائد سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر.. ومن قبلهما بدر شاكر السياب.. ولو لم ينحرف عبدالرزاق عبدالواحد بشاعريته الهائلة، عن مساره الأيديولوجي، ليتحول إلى بوق شعري مدوٍ، يمجد بطولات صدام حسين الوهمية، لأصبح– هو الآخر– من أبرز المؤثرين في شاعرية الجيل الثاني من شعراء العراق والمملكة ودول الخليج. ولأن على الدميني يمتلك ذائقة شعرية منذ تشكّل وعيه، فقد قام بقراءة الشعر العراقي الحديث، قراءة متواصلة، لم يعقها اطلاعه على تجارب الشعر العربي الحديث في مصر وسوريا ولبنان، ليقف منبهراً متأثراً بما أبدعه سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر ومحمود درويش.. وهذا ما يلاحظه الناقد في ديوانه الأول "رياح المواقع". غير أنه في السنوات الأخيرة، وقد تفرغ معتنياً بتجربته الشعرية، اختط له تعبيراً شعرياً فريداً، بعد اطلاع واسع على مدارس الشعر العربي، القديم والحديث، واهتمام بالكتابات النقدية، وقراءة واعية للمشروعات الفكرية التي تطارحها أبرز مفكري العرب المعاصرين، وقد تجلت هذه القراءات في رائعته "الخبت" التي أراها في طليعة قصائد الشعر العربي الحديث في السنوات الأخيرة.. صحيح أن هناك تناصا بينه وبين معلقة طرفة بن العبد ذات البعد الاغترابي، إلا أنه كذلك تناص مع روائع قصائد الشعر الشعبي في مسقط رأسه الغامدي، حقق فيه الدميني قيمته الابداعية المضافة، لأنها خلت من "العربات وهي تئن خلف خيولها البيضاء" ومن "قد عرفت المدينة".. "أنهارها والحصى".. "حين أطل على الساعة في الميدان".. "ليحضر موعده الأبيض قبل وصول الباص" ؟!
علي الدميني هو عمر بن أبي ربيعة الذي ظل يهذي بالشعر زمناً طويلاً، وهو يتغزل بالقرشيات، حتى استقام لسانه الشعري.. حين وعى أنه لا بد من التخلص من أحمال ذاكرته.. ويقول الشعر على سجيته.. هكذا.. مثل قولك ياعلي : "ياملاك الصدف كيف لم نختلف أنت عريتني من صباي، وهيأتني حارساً للمسرات في كل هذه الغرف وأنا كنت رمحك في الصيد لكنني دائماً لا أصيب الهدف". أو هذه المتناسلة الصور بروحية صوفية متفانية : الأصدقاء هؤلاء الذين يربّون قطعانهم في حشائش ذاكرتي هؤلاء الذين يقيمون تحت لساني موائدهم، كالهواء الأخيرْ. مرةّ أستعير لهم فرح امرأةٍ في الجريدة تبكي عليّ، مرَةّ أطلق السهم نحوي، فأخشى عليهم جنون الصبيّ، ومراراً أغسلهم بالحدئق كي يتركوا جثتي في المياه، عارياً كقميصٍ بلا شفتينْ، نائماً في رفاتي كما أشتهي، سابحاً في صفاتي كما ينبغي، وأتوّجني سيداً وأميرْ، العودة إلى النبع الحالم كما يعبر عنوان أول دواوين الباحثة والشاعرة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي، هي التي تفجّر الشاعرية.. وأنت– ياعلي– حين تختلي بنفسك، وتستعيد زمنك المضمخ بعطر المعاناة، معاناة فقد الأم، والتنقل بين القرى الغامدية، واسترواح صور الطفولة والصبا، هي التي تجعلك تبدع في "بروق الغامدية" إذ تنزع عنك محاولات التشبه والانبهار بالمدينة.. أترك لنفسك العنان أيها القروي وسوف تبدع كما أبدعت، وأنت ترسم هذه اللوحة: ابق في الغواية، هذا الفتى الغامدي الخجول تتبدّى له نجمة في الحديقة بيضاء من ذهب وحقول وتوسوس فوق ذراعيه مغسولة برواء الفصول لا تقولي عشقتك، ما زلت غضاً يخب نهار الطفولة لكنها ستقول ويكون الذي كان حين امتطينا صباح الخيول. بقلم: محمد رضا نصرالله علي الدميني