يوم حلو ويوم مر، ويوم لك ويوم عليك وتستمر الحياة، ومن رحم هذه الأيام تولد الذكريات، ومن منا بلا ذكريات ومن منا لا يملك خزائن الأسرار في نفسه؟ حتى الطفل ذو السبع سنوات يحكي لك حكايته ويقول: أتذكر يوم كنت صغيراً..!! وكما نرتشف القهوة ونتلذذ بطعمها ورائحتها التي تأخذك بعيداً عن خارج لحظتك نجد في قاع الكوب ما يسمى باللهجة العامية (السريب)، وكما أن هذا السريب يبقى في قاع الفنجان ثقيلاً إلا إذا حركته، كذلك الذكريات تبقى في دهاليز العقل الباطن، فإذا مر عليها طيف تحركت وتبعتها المشاعر.! والذكريات تبقى مستيقظةً معنا، فنحن نستدعيها بين فينة وأخرى وقد تأتي بلا استئذان كالبرق الخاطف، فهل سمعنا عن برق يستأذن؟!! "أحلام مستغانمي" كاتبة وروائية من بلد المليون شهيد، التقيت بها منذ سنوات في فرنسا وبالذات في شارع الشانزلزية بباريس، حيث ملتقى معظم السياح العرب، تقابلنا وتجاذبنا أطراف الحديث، شخصيتها تشدك إلى عالم الكتابة والرواية وقصص الحياة ويمضي الوقت ونفترق. كلما سمعت باسمها يتبادر إلى ذهني صوتها المجهد وهي تتألم من قسوة المفارقات التي رأتها في حياتها حتى إنها لم تكن لتجد لها تفسيراً يقبله العقل، تقول: أعجب كل العجب كيف للمناضلة الجزائرية (جميلة بو حريد) التي سطر التاريخ نضالها قصصاً وحكايات وعرفها طلبة المدارس من خلال الكتب المدرسية، وجسدت دور السينما والمكتبات قصة كفاحها ضد الاستعمار الفرنسي كتباً وأفلاماً، كيف لهذه المناضلة أن تستقل الطائرة في مقعد درجة سياحية، بينما متسابقو الغناء العربي تخصص لهم طائرات خاصة مستقلة تنقلهم من مكان إلى آخر؟! هذه المقارنة كانت تؤلمها نفسياً، هذه الكاتبة لها فلسفة خاصة في طريقة معالجة الذكريات المؤلمة في نفوسنا، ولعلي أستقي من سطورها التي جاءت في إحدى كتبها -أنقلها بشيء من التصرف- لمن أراد أن يمحو صرخات الألم في نفسه كلما ذكر شخصاً أو موقفاً سبب له جرحاً عميقاً أدمى مقلتيه! المقاطع سأوردها مبعثرةً في فوضى جميلة فجمال بعض الأشياء يكمن -أحياناً- في فوضويتها.! هي تخاطب المرأة وتقول لها: واظبي على فرم الذكريات.!! "النيويوركيون اخترعوا طريقةً جديدةً لرمي كل ما يريدون نسيانه والتخلص منه من ذكريات العام الماضي، فقد وضعوا بمناسبة نهاية السنة مفرمةً كبيرةً في ساحة "تايمز سكوير" راحوا يلقون فيها كل ما لا يريدون أن يكون له مكان في حياتهم! فذاك رجل يلقي بصورة، وآخر يرمي بقائمة ديونه، وامرأة تقذف بهاتفها الخلوي... وهكذا. لا تنتظري إلى نهاية السنة لتلقي بما يزعجك إلى "مفرمة الذكريات"، ادخلي مطبخ الذكريات وافرمي كل ما أصبح مصدر إزعاج وألم في حياتك، اصنعي من الذكريات المفرومة "تبولة": انقعي برغل الأمنيات التي يبست في الغياب، استعيني بسكين مسنون جيداً لفرم الماضي مرةً واحدةً، في التبولة ليس المهم البقدونس بل السكين، المهم أن تفرمي الذكريات التي تفرمك يومياً دون رحمة، والمثل الجزائري يقول "كل ما تنزل دمعة تضوي شمعة"..! هناك نوعان من الشقاء الأول: هو ألا تحصل على ما تتمناه، والثاني: هو أن يأتيك ما كنت تتمناه وقد تأخر الوقت كثيراً وتغيرت أنت وتغيرت الأمنيات بعد أن تكون قد شقيت بسببها أجمل سنوات العمر..!! تقول الكاتبة: أحمل قائمةً بأسماء مكتوبة بلونين الأزرق والأحمر، الذين أدعو لهم بالأزرق والذين أدعو عليهم بالأحمر خشية أن تختلط علي الأسماء وأنا بين يدي الله، وليس كل من يدعو على شخص فهو يكرهه ولنا في جميل بثينة نموذج في تناقض مطلبه ودعوته فقد راح يدعو على بثينة بالعمى "رمى الله في عيني بثينة بالقذا".. ولما عاتبته عاد ودعا على نفسه "ألا ليتني أعمى وأصم تقودني بثينة لا تخفى علي كلامها". ويبدو أن هذا الدعاء شائع من الأزل لدى الرجال فقبل عشرين عاماً كان أحدهم في الجزائر يدعو على قريبة له رفضت الزواج به فقال: "الله يعميك ولا تجدي من يقودك"! وهناك امرأة تدعو "الله يبعتلوا شلل وطولة عمر"، ومن الدعاء ما يكون ظاهره خيراً وباطنه شراً وهو دعاء المظلوم على كل ظالم: "اللهم أعطه من كل ما أعطانيه أضعافه" وهنا نتذكر الحديث الشريف "اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"!. في الختام: النسيان نعمة، ننسى الإساءة ونمد يدنا لنصافح أول من طعننا في الظهر، مع أن بعض الجراحات لا ينفع معها علاج زمن ولا مشرط طبيب! ونطوي سرادق العزاء ونذهب لشراء الورود نزين بها أفراحنا، قد ننسى أو نتناسى لا يهم، الأهم أن نسامح ونتسامح ليس لشيء سوى لأن الله وعدنا بذلك "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" ومن كان أجره على الله فما الذي يرتجيه من البشر!!