لم يكن قرار استقالة وزير الدفاع الأمريكي تشاك هاغل مفاجئاً بقدر ما كان اعتذار المرشحة الأوفر حظاً ميشيل فلورنوي عن عدم قبول المنصب إن كلفت بذلك. وقوبل قرارها بعدم تولي أية مناصب واستمرارها في رئاسة المركز البحثي الذي أسهمت في إنشائه بعدم ارتياح لدى الكثيرين في البنتاجون الذي تتمتع فيه بعلاقات جيدة مع المتنفذين فيه أثناء فترة عملها في منصب مساعدة وزير الدفاع الامريكي لشؤون السياسات. ولم يكن البيت الأبيض أفضل حالاً إزاء قرارها؛ فهي اختيار مثالي للمنصب في هذه المرحلة إذ تتفق مع توجه أوباما بزيادة عدد القوات خارج الأراضي الأمريكية. كما أنها تمتلك القدرة للدفاع عن قرار الحملة العسكرية على تنظيم داعش أمام الكونغرس بما لديها من خلفية أكاديمية في المجال العسكري جعلت لقب «عقل البنتاجون» يلتصق بها أثناء فترة عملها بالوزارة. وقالت إنها اتصلت بالرئيس أوباما لكي يبعدها من دائرة اختياراته لما أرجعته لأسباب أسرية وصحية بحسب تعبيرها، وهو ما لم يصدقه أحد. عش الدبابير يؤرق الساسة جاء اعتذار فلورنوي بعد أكثر من يوم من استقالة هاغل، ولكن اعتذار السيناتور جاك ريد جاء بعد دقائق من إعلان خبر الاستقالة حتى بدا الأمر وكأن قبول هذا المنصب دخول لعش الدبابير. ولعل توالي الاعتذارات يشي بمدى الصعوبات التي تنتظر من سيجلس في مقعد إدارة البنتاغون في المرحلة المقبلة. أول هذه المصاعب هي ترتيب البيت من الداخل؛ فالجنرالات في وزارة الدفاع يريدون لمؤسستهم بعض الاستقلالية في القرار، وهو ما لا يتيحه استحواذ مجلس الأمن القومي على قرارات البيت الأبيض في تهميش واضح للمؤسسة العسكرية في قرارات يرى الجنرالات أنه لا يجب اتخاذها إلا بعد تنسيق كامل مع البنتاجون. وبحسب تقرير نشرته مجلة تايم فإن صناعة القرار في المكتب البيضاوي تتم من خلال مثلث مستشاري الرئيس الذين يثق بهم: سوزان رايس مستشارة الأمن القومي، ونائبها بن رودس، ودينيس ماكدونو كبير موظفي البيت الأبيض الذي كان يشغل منصب نائب مستشار الأمن القومي. ويدلل الجنرال المتقاعد جاك كين على ذلك بأن اجتماعات مسئولي وزارة الدفاع مع البيت الأبيض بشأن طريقة التعامل مع تنظيم داعش كانت تنتهي دون اتخاذ أية قرارات. وبعد انتهاء تلك اللقاءات يجتمع أوباما بالمثلث الأمني الذي يحكم في صياغة القرارات المصيرية للأمة على حد تعبير كين. وهو ما يعتبره أمراً مهيناً لمسؤولي وزارة الدفاع الذين يتم استبعادهم خارجاً في أمور هي من صميم مهامهم. ولعل من المواقف التي تدلل على العلاقة بين البنتاجون والبيت الأبيض ما تردد أن دعوة أوباما لقواته في صيف العام الماضي بالاستعداد لتوجيه ضربة جوية لقوات بشار الأسد كانت دون علم وزير الدفاع هغل بحسب ما نشرت صحيفة فورين بوليسي. ومن الملفات الداخلية الشائكة أمام الوزير القادم ملف تخفيض موازنة الدفاع. وفشلت محاولات الوزير المستقيل في إقناع الكونغرس أن هذا التخفيض سيكون له تأثير سلبي على جاهزية القوات الأمريكية. ويقود هذا الملف إلى الموقف الحرج لخليفة هاغل حيث يسيطر الجمهوريون على لجنة الخدمات المسلحة. وسيكون عليه أن يقضي وقتاً طويلاً في التردد على مقر مجلس الشيوخ لمقابلة رئيس اللجنة المخضرم جون ماكين لاستجواب هنا أو هناك لا سيما في ظل تحفظه ومعارضته لعدد من قرارات الإدارة الأمريكية الحالية خصوصاً فيما يتعلق بطريقة التعاطي مع خطر تنظيم داعش، ومع الملف الإيراني. ملفات ملتهبة وعلى صعيد الملفات الخارجية يجد الوزير القادم في انتظاره ملفات ملتهبة لعل على رأسها ملف تنظيم داعش الذي تقود الولاياتالمتحدة تحالفاً دولياً ضده. وتثار عدة تساؤلات بشأن هذه العملية من حيث توقيتها، ومداها، وتكلفتها بين مؤيد ومعارض مما يتطلب أن ينجح الوزير الجديد في تسويق القرار المتخذ سواء في أروقة البنتاغون أو في الكونغرس. وبالتوازي يسير ملف إسقاط الرئيس السوري من عدمه. ومن الملفات الشائكة مسألة سحب القوات الأمريكية من أفغانستان لا سيما بعد نشر تسريب يؤكد فيه الرئيس أوباما نيته التواجد في أفغانستان ولو لعام آخر. يضاف إلى هذا التعامل مع المغامرات الروسية في غرب أوروبا. وهناك ملف إغلاق معتقل غوانتانامو سيئ السمعة بشكل نهائي. ولعل هذا الكم من الملفات المتخمة التي تنتظر ساكن البنتاغون الجديد حافزاً لعدم قبول المنصب الشائك في هذا التوقيت الذي يتوقع أن تكون فيه وزارة الدفاع هي الخبر اليومي الأول في وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية. أشتون كارتر بإعلان فلورنوي رفضها أية مناصب تنفيذية في الإدارة الأمريكية يكاد ثمة إجماع على أن الساحة أصبحت مهيأة لأشتون كارتر الذي سبق أن شغل منصب نائب وزير الدفاع لتولي المنصب. وتضم مسيرة كارتر عدداً من المحطات التي أثبت فيها كفاءة سياسية تطبيقية تضاف لكفاءته الأكاديمية، بالإضافة لبراعته في مجاله حيث حصل على دكتوراة في الفيزياء النظرية. في نهاية 2013 استقال كارتر من منصبه كنائب لوزير الدفاع المستقيل مؤخراً هيجل بعد أنباء ترددت عن خلافات بين الرجلين. وذكرت وسائل الإعلام ساعتها أن كارتر كان يتمتع بقدر أكبر من الاستقلالية أثناء عمله مع وزير الدفاع الأسبق بانيتا. وقرر يومها العودة للحياة الأكاديمية حيث قام بالتدريس بجامعة هارفارد. ويعزز من فرص توليه منصب وزير الدفاع كونه شخصية توافقية من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فضلاً عن إلمامه بآلية العمل في البنتاجون نظراً لخبرته في العمل بداخل العديد من أروقته. إلا أن أهم السلبيات التي تواجه توليه المنصب الحساس أنه لم يعرف لديه فكر استراتيجي يتعلق بالشرق الأوسط المنطقة الأكثر التهاباً. ومن هنا فإن اختياره سيجعل إدارة الملفات في يد مجلس الأمن القومي وليس في يد الوزارة. وبقدر ما يمثله هذا الأمر من خصم لفرصته بقدر ما يعتبر عاملاً إيجابياً إذا انتصر أوباما لبقاء سيطرة مجلس الأمن القومي على اتخاذ القرار في البيت الأبيض. ويلقى كارتر قبولاً من أغلب الأوساط السياسية -ولا سيما الجمهوريين- إلا أن لديه مشكلة مع التيار الليبرالي الذي اعترض على عدد من مواقفه. ويرى المحللون أن خبراته في العمل بالوزارة في إدارات متعاقبة تجعل منه معيناً لإدارة ملف الحرب على داعش، فضلاً عن خبراته في التعامل مع الملف الروسي. مهام دولية مكوكية وشغل كارتر منصب المدير المساعد لمشروع الدفاع الوقائي مع وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ويليام بيري. وشغل منصب نائب وزير الدفاع الأمريكي لسياسة الأمن القومي خلال الفترة الأولى من ولاية الرئيس كلينتون. وفي 1994 تم تكليفه بتولي ملف التخطيط العسكري خلال الأزمة حول برنامج الأسلحة النووية في كوريا الشمالية. وكان لكارتر دور بارز في إزالة كافة الأسلحة النووية من مناطق أوكرانيا وكازاخستان. كما تولى مهمة إنشاء علاقات دفاعية واستخباراتية مع دول الاتحاد السوفيتي السابق. وقام بالإشراف على البرنامج التعاوني الذي بلغت تكلفته مليارات الدولارات للحد من خطر انتشار الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية للإتحاد السوفيتي السابق. وشارك في المفاوضات التي أسفر عنها نشر قوات روسية كجزء من قوة تنفيذ خطة السلام في البوسنة. وحصل مرتين على جائزة ميدالية الخدمة المتميزة من وزارة الدفاع الأمريكية، وهي أعلى جائزة تمنحها الوزارة. كما حصل على ميدالية الاستخبارات الدفاعية، وواصل كارتر تقديم خدماته إلى وزارة الدفاع الأمريكية مستشاراً لوزير الدفاع وخبيراً استشارياً للجنة العلوم الدفاعية، وأحد أعضاء فريق الدفاع الصاروخي الوطني. ترشيحات جديدة لا تزال فرص كارتر كبيرة في الحصول على المنصب ما لم يعتذر كسابقيه على الرغم من أن ترشيحه لا يلاقي إجماعاً في القبول به من دائرة صنع القرار بحسب ما صرح به مسؤولان سابقان في الإدارة الأمريكية لصحيفة فورين بوليسي. وأشارا إلى أن صانعي القرار سيعمدون إلى توسيع دائرة الاختيار إلى حد كبير حتى يمكن وضع بدائل. ومن المتوقع أن تضم تلك الترشيحات راي مابوس وزير البحرية. وعلى النقيض من أشتون كارتر يقف الذي عمل سفيراً للولايات المتحدة في السعودية، حيث كان مستشاراً لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الشيوخ. ولكن الفترة التي قضاها في منصبه لا تؤهله لمنصب بهذا الحجم حيث إن الفترة التي قضاها كانت في معظمها تركز على مسألة خفض الميزانية بدون اختبار للجانب الفني، وهو ما لا يؤهله لخوض الحرب على الإرهاب التي يركز أوباما علىها في اختياره. وقد تتضمن الترشيحات اسم ديبورا لي جيمس -وزيرة سلاح الجو الأمريكي- التي قام أوباما بتعيينها في صيف العام الماضي. وتحل محل فلورنوي كونها ستصبح أول سيدة تتولى المنصب، إلا أنها تفتقر إلى الخبرة اللازمة إذ أن أشهر قليلة في منصبها لم تجعل منها شخصية معروفة في الأوساط السياسية الداخلية أو في عواصم العالم بطبيعة الحال. وهناك جون ماكوف -الرجل الأول في الجيش الأمريكي- المقرب للرئيس أوباما فضلاً عن القبول الذي يجده في البنتاجون. لكن اختياره سيجعل أوباما في ورطة لأنه سيكون ثالث وزير دفاع جمهوري في فترتي ولاية أوباما.