كم فاجأتنا تلك القرية الصغيرة التي لم يسمع كثير منا باسمها من قبل. قرية هادئة وادعة يحتضنها الجبل ويعانقها النخيل. الدالوة ذلك المكان الذي صار بين عشية وضحاها موطئاً لعشرات الأقدام الإعلامية حين وطئتها يد الإرهاب الذي اختارها دون غيرها لينفث في عمق الأحساء سمومه القاتلة. لم يكن القتلة يأبهون لمن قُتل، فقد كان هدفهم إشاعة الضرر بالبلاد ليعم بعد ذلك على العباد. ولكنهم باءوا بخسران عظيم حين انتفضت تلك القرية الوادعة لتكبس على جراحها بالملح وترفع راية الحب على وقع آهات الحزن وحضرت الدموع. حين خرجت الدالوة بسكانها لتشيّع شهداءها، لم تكن وحدها فقد خرج معهم كل من في الأحساء، كثيرون بين بدو وحضر وصغير وكبير، جاءوا من بعض مناطق البلاد الأخرى ليشدوا على أكف أبناء الأحساء التي أظهرت بعد الجريمة مباشرة أجمل ما فيها من حب وتآلف، لم يكن غريباً على من يعرفها ويعرف الإنسان فيها أياً كان مذهبه. حين كانت تصل على هاتفي صور مظاهر يوم التشييع من الدالوة، قلت في نفسي: يا الله أي يوم مر على هذه القرية الساكنة ؟! يوم لم يكن في الحسبان، لا لمن بكى أحبته، ولا لمن خطط ودبر لتلك الجريمة البشعة، فهل كان أهالي أولئك الصغار الذين تضرجوا بدمائهم، يخطر بباله هذا الوداع المهيب الذي ضج بالحب. وهل خطر ببال المجرمين أن رصاصهم الغادر قتل من قُتل لتغتسل الأحساء بدمائهم وتجدد عهودها بالحب للأرض والإنسان وتجلجل أصواتهم في يوم التشييع بأغنية الحياة حين رددوا (إخوان في هذا الوطن ما نبيعه) عبارة جميلة ومعبرة عن الموقف المتحد ضد الباطل.. عبارة رددها المشيعون الذين حملوا صور شهداء الواجب الوطني، الذين كانوا يقاتلون تلك الفئة الباغية على بعد مئات الكيلومترات، فجرح أهل الدالوة كان ضمادة بدماء أبناء القصيم وشقراء، ولا أشك أن هذا الحدث نزل كالسهام على قلوب وعقول من سعوا للفتنة فخاب مسعاهم؛ هزمهم صوت العقل وصوت الحب. وانتهت مراسم التشييع والحناجر تردد مع الثكالى. يمه ذكريني من تمر زفة شباب من العرس محروم وحنتي دم المصاب شمعة شبابي من يطفوها حنتي دمي والكفن دار التراب. كلمات سترددها الأمهات الثكالى حين تغص حناجرهن بالألم في كل لحظة تمر بهن أطياف من رحلوا. وانفض العزاء ونفض التراب على قبور صغار الدالوة وجنود الوطن في مكانين متباعدين جمع بينهما همّ واحد وسؤال واحد يتردد على الألسن. وماذا بعد ؟ إلى أين ستأخذنا رياح الطائفية الهوجاء التي يحركها هذا وذاك ؟ وإلى متى سيتعرض الوطن لنوايا الشر التي تتربص به من قناة فضائية هنا وهناك ؟ هذه للسنة، يتألّه أصحابها ويظنون بأنهم قادرون على أن يجعلوا الناس جميعاً متشابهين، في حين أراد لهم الله جل وعلا ألا يتشابهوا (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون) وأخري للشيعة، يحكمون بالماضي على الحاضر، ولكل منهما متابع ومتأثر لايرى حلاً غير السلاح. وسياط العدوان كل بطريقته، بعضهم يحركه الدين وبعضهم تحركه السياسة، وتدغدغ أحلامه السلطوية، فتباً لكل من شذ من الطرفين على حساب الدين الذي شوهوه، أو على حساب الوطن الذي يزرعون فيه الفتن، والتي لن يُقضى عليها إلا بسن قانون يجرم هذه الطائفية المقيتة التي صار أوارها يلتهب في كل الأجهزة، ممن يعرف ماذا يفعل، وممن لا يعرف، وممن لا يقيم للحياة- ضمن وطن واحد لا تسيل فيه نقطة دم- أي اعتبار. قانون يجرم من يتوارى خلف سوء سلوكه الوطني أحزاب ودول. وآخر يجرم من يقف وراء كلماته الطائفية الجهل والتبعية العمياء للشر الذي يتربص للحياة التي خلقنا من أجلها. فالعقوبات التي نأمل أن تُسن ضد هؤلاء وأولئك هي من ستخرس الألسن التي تنفخ في شرارة الفتن. * كاتبة