ولد هذان الحكيمان في فترة متقاربة في القرن السادس قبل الميلاد، وعاش كل منهما في ظروف تختلف عن الآخر، وفي بيئة تعاني من مشكلات مختلفة عن البيئة الأخرى. في إحدى حلقات النقاش حول هذين الرجلين سألت الحضور هذا السؤال: ماذا لو أن كونفوشيوس ولد في الهند، وبوذا ولد في الصين؟! بوذا عاش في الهند في وسط الديانة الهندوسية التي تمتد في التاريخ لأكثر من سبعة آلاف سنة، ولا يُعلم من مؤسسها ولا متى ابتدأت فعليا، ومع مرور الوقت أصاب المجتمع الهندوسي تغيرات كثيرة، جعلوا من الهندوسية ديانة مليئة بالطقوس الفارغة من المعنى، ونخرتها الطبقية، فأصبح البراهمة هم رجال الدين، الذين يدركون المعنى ويصلون إلى الطهارة بالتوارث ودون جهد حقيقي. جاء بوذا ثائرا على هذه الأفكار، مقللا من الطقوس، ومحاربا للطبقية. لكنه قبل ذلك عاش تجربة روحية قاسية. تقول المصادر التاريخية إنه عاش في قصر وسط رعاية وعناية وبذخ، لكنه ترك ذلك وانطلق يبحث عن تجربته الروحية الخاصة، وجرّب ما كان معهودا عند رجال الدين من صيام وقهر للجسد، حتى أوشك على الموت، ثم مكث فترة طويلة يتأمل تحت شجرة حتى وصل إلى (التنوير) بعد زمن، وخلص إلى نسقه الفكري الخاص، وكان يقول عن نفسه إنه متنوّر وليس بنبي. كونفوشيوس عاش في القرن نفسه في الصين، كانت الصين وقتها تعيش فترة انهيار حكم أسرة (شو)، واستمر الانهيار من القرن الثامن إلى الثالث قبل الميلاد، وككل الحروب الأهلية كانت البشاعة هي سيد الموقف، حين ابتدأت الفوضى كان الناس يتحلون بأخلاق الفروسية، فيُذكر أن القرية إذا غزت أخرى، كان جيشها يرسل المؤن إلى خصومهم في يوم المعركة، ليثبتوا لهم أنهم لا ينتصرون إلا بشجاعة الرجال، لكن سرعان ما ذهبت هذه العادات وحل محلها أخلاق التوحش، فكان الجيش الغازي إذا انتصر فتك بالقرية المغلوبة وهتك عرض أهلها، هنا جاء كونفوشيوس باحثا عن حل، وقد ولد لأسرة متواضعة، وعاش حياة طبيعية، وتقلّد عدة مناصب حكومية، حتى وصل إلى منصب سياسي رفيع في منطقته، ثم ابتعد عن العمل السياسي وتفرغ لنشر أفكاره، تطورت أفكاره شيئا فشيئا. يسميه الصينيون ب (المعلم) ولا تدور حوله قصص أسطورية كما هو الحال مع بوذا. ينطلق بوذا من تجربة روحية ذاتية، ثم يسعى إلى نشرها، بينما ينطلق كونفوشيوس من مشكلة جماعية واقعية في الأساس. يركز بوذا على التأمل وإصلاح الفرد، والبدء من الداخل، فمتى ما عثر المرء على ذاته وحقق الخلاص ستتحقق السعادة، بينما يركز كونفوشيوس على العادات والتقاليد، ففي رأيه أن الصينيين لطالما التزموا بشكل صارم بعاداتهم، فمتى ما تم تطوير هذه العادات بشكل مدروس بحيث تمنع أخلاق التوحش حتى في حالات الحرب الأهلية وانفلات الأمن وانعدام السلطة سيكون المجتمع بخير وسيتحقق العيش الكريم. هنا يأتي السؤال: ماذا لو أن كونفوشيوس عاش في الهند، وبوذا عاش في الصين. حين طرحت هذا السؤال على المشاركين وهم شباب في سن طلبة الجامعة، قال أغلبهم إن بوذا لن يكون هو ذاته، ولا كونفوشيوس أيضا، إن الظروف التاريخية هي التي تخلق أفكارنا، وهي التي تشكّلنا وتصنعنا، فلو أننا وُجدنا في ظرف تاريخي مختلف لكنا غير ما نحن عليه اليوم، إننا لا نستطع أن نعرف أبدا من هو بوذا أو كونفوشيوس لو أنهما ولدا اليوم. القصر في حياة بوذا، ووجود الهندوسية بمشكلاتها، وعثوره على رجال الدين الذين يقومون برياضات روحية قاسية على الجسد، كل هذا كان له تأثيره على شخصيته، ولو أنه عاش في الصين فلا ندري هل كان سيصرّ على نفس التجربة الروحية أم لا، ولو أنه أصر على ذلك فإن العقيدة السائدة سيكون تأثيرها مختلفا عن تأثير الهندوسية، وكذلك لو أنه صادف رجال دين يقومون برياضات أو صلوات دينية مختلفة عن تلك التي رآها، لكانت النتيجة مختلفة. هذه المَوْضَعَة التاريخية للإنسان من أعظم ما أنجزه الوعي البشري، أن يعي أن الإنسان ليس كائنا مطلقا، بل لا يمكن تصوره دون بيئته. ماذا لو عرضنا هذه النتيجة على شخص بوذي أو كونفوشيوسي، إن كان متعصبا فسيغضب من هذه النتيجة بالتأكيد، لأننا نقول له ببساطة إن الظروف التاريخية هي التي أنشأت هذه الأفكار التي يتعامل معها الأتباع اليوم بوصفها أفكارا مطلقة وعابرة للأزمان، ولو أننا غيّرنا قليلا من المعطيات التاريخية للمؤسس الأول لكانت النتيجة ليست هي النتيجة اليوم، إنها ليست مصادفة ولكنها التاريخية. هكذا وبكل أريحية وسهولة استطاع الطلاب أن يصلوا إلى تاريخية هذه الأفكار، لكنني لو تجرأت وطبقت ذلك على الفرق الإسلامية وأرجعتها إلى مؤسسها الأول وكذلك الجماعات الدينية لكان التوجس والرفض –ربما- هو سيّد الموقف، نحن نرى اليوم مثلا كيف تتشكّل (داعش)، ونستطيع أن نكتب طويلا عن الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية التي سمحت بظهور هذه المجموعة، إضافة للتطور التاريخي الذي حصل للجماعات الجهادية في القرن الماضي، لكن أتباعها اليوم لا يرون فيها إلا الحق المطلق الذي لا يخضع لأي ظرف تاريخي، ويرونه مطابقا للحق الذي يظهر في كل زمان ومكان، ولو افترضنا استمرار الفكر الداعشي أيضا، فسيكون أتباعه بعد زمن أكثر تعصبا، وأكثر بعدا عن المَوضَعَة التاريخية.