هناك شيءٌ ما يربطنا بسورة يوسف -عليه السلام- منذ أن يكون الطفل صغيرًا في حلقة القرآن يحفظ ويراجع، وحتى يصبح شيخًا كبيرًا يسمع التلاوة في مذياعه وسورةُ يوسف لها تأثيرٌ خاص في نفسه، يجد لها أُنْسًا ونشاطًا حين يصل إليها وكأنه كان في انتظارها؛ ربما لأنها قصة مليئة بالدموع والآهات، والدروس والآيات. والنفس البشرية تتفاعل مع القصة ما لا تتفاعل مع غيرها: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [سوة يوسف:3]. من قبل كان المشهد الأكثر تأثيرًا في نفسي قصة يوسف في شبابه وامرأة العزيز تراوده عن نفسه، وهو يقول: {مَعَاذَ اللَّهِ} [سورة يوسف:23]. ثم تراوده مع النسوة وهو يقول: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [سورة يوسف:33]. ولاريب أن هذا المشهد مشهد عظيم لشابٍّ يجد ما يجده كل شاب من نوازع الطبيعة، ودواعي الفتنة، ويبتلى فيها بالإغراء والتهديد، ثم يقاوم ذلك كله بإيمان وصبر وثبات. مع الأيام شعرت أن في قصة يوسف ما هو أعظم وأصعب من هذا النجاح، وهو ابتلاء العفو والتسامح، والتعالي عن المعاناة الخاصة، والإخلاص للهدف الأول الذي اختاره لحياته وهو الدعوة إلى الله والإصلاح. وكل ما يمكن أن يقال في هذه القصة سيكون بيننا وبينه حجاب، يحرمنا من استشعاره والتأثر به، حتى نضع أنفسنا في مكانه ونتساءل بصدق هل نستطيع أن نسمو هذا السمو؟ إن العفو في قصة يوسف لم يكن قرارًا عابرًا محدودًا بموقف معين، بل كان (سيرة وسريرة)، وظل العفو والتسامح والإخلاص لأهدافه الأولى سيرة وهديًا وسلوكًا ثابتًا، وسريرة صافية لا تحتفظ بالأحقاد والأغلال. لقد مر على يوسف ثلاثة مواقف يمكن أن تورط حياته بالغل والحقد، وأن تحرفه عن مسيرته وأهدافه السامية. وإذا تورط القلب في جنحة الحقد والغل أصبح مرتعًا لأسوأ المشاعر، واجتمع في قلبه من الأعباء ما ينوء به ظهره، وما يُقعدُه عن التحليق عاليًا في أهدافه ومُثُله. فهؤلاء إخوته يأخذونه من حضن أبيه وأمه بأيدٍ تتظاهر بالرحمة وفي قلوبهم نية القتل وجرمه، ثم يضعونه بأيديهم في الجب ويتركونه وحيدًا يواجه مصيره في الكربة والغربة حتى أصبح هذا الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم بضاعة تباع وتشترى {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [ سورة يوسف:19]. كم كان هذا التواطؤ على هذه الجريمة العظيمة قاسيًا على قلب الفتى الصغير! وكم كان هذا الموقف الشنيع قادرًا على افتراس طهارة قلبه ونقائه وصفائه! لولا أن الله أكرمه بهذا العفو وجعله سيرة وسريرة. ولا يزال هذا البغي والظلم يلاحقه حتى التقاهم في مصر وهو في عزه وسؤدده، وهم يقولون: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [ سورة يوسف:77]. ثم يتعرض لظلم آخر لا يقل عنه وقعًا وتأثيرًا، وذلك حين تمالأ عليه النظام، وقرر سجنه من بعد ما رأوا الآيات على براءته، ودخل السجن في تهمة رخيصة لأكثر خلق الله عفة ومروءة {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِين} [سورة يوسف:35]. والعجيب أنه يدخل السجن ثم لا تؤثر هذه المواقف على سيرته وسريرته، ويبقى في عافية نفسية تجعله يُعرض عن هذه الآلام الخاصة، ويظل محسنًا كعادته كأنما حياته السابقة عافية ورفاهية، وشهد له أصحابه هناك بالإحسان {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة يوسف:36]. وحين فاضت نفسه بالحديث كانت عن أهدافه السامية، ودعوته وإصلاحه. كيف استطاع أن يتناسى ما أصابه؟ وكيف استطاع أن يبقى وفيًا لهدفه الأول وألا ينحرف عنه مهما أصابه من ظلم وتواطؤ وأذى؟ ثم يخرج صاحبه من السجن بعد علاقة حميمة بُنيت على العاطفة والإحسان، ويطلب منه أن يذكره عند ربه، ثم لا يذكره، {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [سورة يوسف:42]. وهذا الموقف جدير بأن يصل العتب إلى أعماق النفس، وأن يشك الإنسان بعدها في جدوى الإحسان، ثم نرى يوسف بعد هذه المعاناة العظيمة في أفق آخر لا تصل إليه الأحقاد، ولا تحجبه التجارب الخاصة مهما كان ألمها عن طريقه الذي اختاره لنفسه، وهدفه الذي ارتضاه لعمره. أما إخوته: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [سورة يوسف:92]. ويأتي بهم ويقربهم ويحسن إليهم وكأنما أحسنوا إليه ولم يسيئوا. وأما النظام الذي سجنه واتهمه، فيشارك معه في الإصلاح وإنقاذ البلاد، وينسى آلامه الخاصة من أجل الناس والعامة، وأما صاحبه الذي نسيه ونسي إحسانه وبقي بعده في السجن بضع سنين، فلا يسمح لنفسه بعتابه ويتعامل معه كأن شيئًا لم يكن. إن صورة يوسف وهيئته في غاية الجمال، وأجمل منها قلبه بين جنبيه، الذي اتخذ العفو والتسامح سيرة وسريرة. وظل وفيًا لإحسانه، ووفيًا لمُثُله وأهدافه. أيها الدعاة إلى الله.. أيها المصلحون.. الطريق طويل، ويعرض للداعية والمصلح ما يعرض له من الظلم والأذى، والتحدي أن يبقى حب الخير والإحسان هو ما يقود مشاعره، وأفكاره، وأحاديثه وأعماله. وألا يحرفه عن أهدافه السامية ظلم البعيد والرفيق، وخصومات الطريق. العفو شجاعة ونقاء، وانتصار على نوازع النفس للانتقام. وأسعد الناس بخُلُق العفو صاحبه الذي يعيش سعادة الإحسان، ومتعة النسيان. بعكس الحقود الذي يحمل في نفسه ما ينوء به ظهره، وينطفئ به نوره. ومن العجب أن ترى من يستدل بسورة يوسف على حسد الأقارب، وينسي أن يستدل بها على عفو القريب وتسامحه مهما بلغت أذيتهم. السلام على يوسف يوم ولد، والسلام عليه يوم رمي، والسلام عليه يوم سجن، والسلام عليه يوم بقي عفوًا ومحسنًا، وداعيةً ومصلحًا.