من المسلّمات أن حياة الإنسان مليئة بالذكريات العصية على النسيان والمحفورة في الذاكرة لتبقى نبعًا فياضًا يروي ظمأ الأجيال، وتتجدد معها اللقاءات في كل المناسبات؛ لتعمّق وتجذّر العلاقات فتظل حية في الذاكرة على الدوام. وتتفاوت الذكريات وتتنوع، فقد تكون سعيدة جميلة، وقد تكون حزينة تذوب لها النفس حسرات، ومهما كانت فهي توقظ الذاكرة، وتحملها على جناح الخيال، متخطية الزمان والمكان؛ لتعيش مع الماضي ولو للحظات بكل ما حفل به من نجاحات أو إخفاقات. لكن يجب أن نبتعد عن السلبيات، ولا نتذكرها إلا لنتجنب تكرارها ونبتعد عن أسبابها، ونستلهم منها الدروس والعبر. أما الإيجابيات فيجب أن نستثمرها في تعزيز العلاقات وتعميقها، والبناء عليها لتظل مصابيح وهاجة تضيء لنا طريق التواصل مهما بعدت المسافات. وأجمل الذكريات هي ذكريات الطفولة البريئة وما حفلت به من لعب ولهو، وذكريات الدراسة في كل مراحلها بدءًا من الروضة وحتى الجامعة. لا يمكن للطالب أن ينسى أستاذه مهما تقدم الزمن، بل لعلني لا أغالي إذا قلت: إنها العلاقة الأبدية التي لا تنفصم عراها ولا يخبو وهجها، وهل يمكن للإبن أن ينسى أباه مهما بعدت الديار وشط المزار؟ أما الأستاذ، فتظل ذاكرته حافلة بأسماء طلابه خاصة المتفوقين منهم، ومن لهم سمات ينفردون بها عن غيرهم. وربما اعترى الذكريات شيء من الركود لكن سرعان ما تتوهج جذوتها في المناسبات واللقاءات، فيدلي كل بدلوه، فينفض الغبار عن الماضي ليجعل منه واقعًا معاشًا وكأنه حدث للتو. وعودًا على بدء، فإن (اليوم الأول من أغسطس/آب 2014 الموافق يوم الجمعة الخامس من شوال 1435 شهدت مدينة سيهات يومًا فريدًا، ولقاء حميمًا بين الطلاب وأساتذتهم، وشهده عدد وفير من أهل سيهات، وذلك في مجلس الحاج عبدالله المطوع -يرحمه الله-. إنها لحظات مؤثرة حقًا، جمعت الطلاب وأبناءهم بجيل الأساتذة الممثل في الأستاذ يوسف فضل الله والأستاذ طلال قديح. الأستاذ يوسف، سوداني عريق، وهو أخ وصديق، زاملته خمسة عشر عامًا في سلك التدريس بمدرسة سيهات المتوسطة النموذجية، فكان نعم الأخ ونعم الصديق، وتجلت فيه كل مكارم الأخلاق من صدق وكرم ووفاء وإخلاص؛ لذا كانت علاقتنا متميزة، فكنا وجهين لعملة واحدة. من خلاله أحببت السودان والسودانيين، وأفخر بأن لي منهم أصدقاء كثيرين، وامتدت علاقتنا لأكثر من أربعين عامًا. عاد إلى السودان قبل عقدين من الزمن، بعد أن ساهم بإخلاص في مسيرة التعليم بالمملكة العربية السعودية لمدة ثلاثين عامًا، ويشهد بذلك زملاؤه وطلابه على حد سواء. ولكنه -وهو في السودان- لم ينس زملاءه وطلابه ومعارفه، فظل ينازعه الشوق ويشده الحنين، ويتمنى أن يعود إلى المملكة زائرًا لتكتحل عيناه برؤية محبيه، ويسعد بلقائهم فتتجدد الذكريات. وتحققت أمنيته، ووصل سيهات ليُستقبل استقبالًا حافلًا تجسّد فيه الحب والإخلاص لأستاذ أحبهم وأحبوه، وظل اسمه ناقوسًا يدق في عالم النسيان. ورحم الله القائل: وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا كم هي سعيدة هذه اللحظات التي تجمع الأحباب بعد شتات وطول فراق. قد كان احتفال طلابنا في سيهات بنا، مميزًا بكل المعايير، بلغ ذروة الكرم والجود، وغاية الحفاوة والاستقبال، وهو ما سيبقى محفورًا في الذاكرة يتحدى النسيان؛ لأنه لامس العاطفة وخالط الوجدان. ما أعظم الوفاء من أهل الوفاء! من الطلاب لأساتذتهم الفضلاء الذين تركوا بعطائهم الوفير بصمات خالدة في الحياة، وظل لسان حالهم يردد دائمًا قول الشاعر: صن النفس واحملها على ما يزينها تعش سالمًا والقول فيك جميل كل الشكر لأهل سيهات ولطلابنا الأوفياء الذين نفخر ونعتز بهم كما هم يعتزون ويفخرون بنا قائلين: أولئك أساتذتي فجئني بمثلهم. أما مملكتنا الغالية الحبيبة التي عشقناها أرضًا وشعبًا، وجمعنا فيها عيش مشترك، امتد قرابة نصف قرن، فيكفي أن أدعو الله لها أن تبقى واحة أمن واستقرار وسلام. وأما أنت أخي أبا نبراس فأهلًا بك وسهلًا، شرُفنا وسعدنا بلقائك، وعذرًا إذا لم ترتق الحفاوة والاستقبال إلى ما يليق بك وما أنت أهله، فالعاطفة والمشاعر فوق كل المفردات، ولتعذرنا أخي وحبيبي الأستاذ يوسف حفظك الله موفور الصحة والعافية، ونعدك أن نظل على العهد كما كنا دائمًا على تواصل باستمرار، واسلم أبدًا لأخيك طلال، وكل محبيك، والله يحفظك ويرعاك.