لكل واحد منا، نحن جيلَ الكتاب الورقي، حكايةٌ طريفة مع الكتب، باعتبارها مصدراً من مصادر المعرفة. تستمد الحكاية طرافتها من ندرة الكتب، وصعوبة الحصول عليها في تلك الأيام. ولعل تلك الصعوبة هي ما دعا أحدهم إلى اعتبار من يعير كتبه مغفَّلاً، ومن يعيدها إليه أكثر تغفيلا! تعود بي الذاكرة إلى نهاية الستينيات من القرن المنصرم، إلى طالب الثانوية الذي يعمل ويدرس. يعمل نهاراً ويدرس ليلا. ففي كل يوم تقودني استراحة الظهيرة إلى كوخ من الصفيح أو (صندقة) في مطار الظهران، ومروحة تنفث هواءً ساخنا، وبصحبتي زميل عمل يشاركني وجبة هزيلة من الجبن والمربى والخبز وكوب شاي. أما وجبتي الدسمة، بعد ذلك، فقد تكون كتابا من تأليف طه حسين أو سلامة موسى أو كامو أو كولن ولسون. وقد تكون رواية لنجيب محفوظ أو فرانسواز ساغان، أو جاك لندن، يوفرها لي الزميل الذي يشاركني الكوخ ولا يقرأ. يحصل زميلي على تلك الكتب بسبب طبيعة عمله. أقرأها ثم أعيدها إليه لتلاقي بعد ذلك مصيرها الذي أجهله. أقرأها على عجل، مع أن بعض الكتب الممتعة تستحق قراءة متأنية. وهو ما عبر عنه فرانسيس بيكون بقوله: «بعض الكتب لكي تتذوقها، وبعضها لتلتهمها، وأخرى لتمضغها وتهضمها». تعود بي الذاكرة إلى تلك الأيام، كلما تأملت سهولة الحصول على الكتاب الورقي أو الإلكتروني هذه الأيام. في الستينيات أيضا كنت أستعين بصديق يعمل في أرامكو، ليستعير باسمه الكتاب الذي أود قراءته من مكتبة الشركة. هكذا قرأتُ، ولأول مرة، رائعة الأديب الروسي ديستويوفسكي (الأخوة كرامازوف). ومن ذا الذي كان يحلم بالعثور على رواية كهذه في مكتباتنا آنذاك؟ في أيامنا تلك، إذا سألت الورَّاق عن كتاب ما نظر إليك بارتياب. والممنوع، آنذاك، وبمعايير هذه الأيام، حيث أصبحت تلك الكتب في متناول الجميع، لا يشبه إلا «ممنوعات» سرحان عبد البصير (عادل إمام) التي يهربها إلى حديقة الحيوان «بعشرات قروش خس» ليطعم بها الأرانب. آنذاك، إذا لم تكن معروفا عند الورَّاق سينظر إليك مليا، فإذا اطمأنت نفسه. قال لك: انتظر! طبعا ستنتظر حتى يخرج آخر زبون من المكتبة، عندئذ يخرج الكتاب من مخبئه ويسلمك إياه. وهو ما يسمى ب «البيع تحت الطاولة»، أو «فن تهريب المعرفة». كان الورَّاقون، ومنذ القدم، يؤدون خدمة كبيرة للثقافة، أيا كانت أساليبهم المتبعة في نشر المعرفة. ولذلك يرى كونفوشيوس أنهم يستحقون التكريم. أعود إلى البيت مبتهجا بصيدي السمين. ذلك أن فرح اقتناء كتاب آنذاك يشبه، في أيامنا هذه، فرحَ صبي حصل على (آي باد iPad) هدية من والده. كبرنا وتعلمنا أن الكتب التي تستحق القراءة هي تلك التي تحثُّنا على التفكير، وليست الكتب التي يفكر مؤلفوها نيابة عنا. تعلمنا كذلك أن بعض الكتب قد تجاوزها الزمن، فانتهت صلاحيتها كما تنتهي صلاحية علبة حليب. وبعضها شموس لا تأفل، فهي مصدر إضاءة وتنوير على مر العصور. أخيرا، وعلى رأي الأديب الظريف مارك توين، فإن قوام الحياة المثالية هو ضمير مرتاح، وصحبة جميلة، وكتب جيدة. ومن المؤكد أن حياة بلا كتب هي حياة فارغة. أو كما يقول أحدهم: إن بيتاً بلا كتب يشبه غرفةً بلا نوافذ!