شهدت الرواية العربية سابقا حضوراً مميزا لشهر رمضان وما يشحن به النفس من طاقات ايجابية، إضافة إلى انعكاساته الشعبية والفلكلورية كما في بعض الروايات مثل نجيب محفوظ ك(خان الخليلي) . إلا أن استثمار هذه الظلال في الرواية العربية شهد تراجعا كبيرا في السنوات الأخيرة، فإلامَ يعود هذا التراجع في استثمار هذه المواسم الروحية؟ وهل ما زال بالامكان استثمار مثل هذه المواسم في البناء السردي؟ أليس في جماليات هذه المواسم وما يتبعها من عادات ومتغيرات عميقه كاسرة لرتم الحياة، ما يستهوي المبدع ويعكس بعدا تراثيا ودراميا داخل النص؟ هذا ما استوقف "الجسر الثقافي" جملة من الروائيين والقاصين السعوديين للحديث عنه، ونحن في شهر رمضان المبارك. قراءة البيئة تقول القاصة عقيلة آل حريز: بملاحظة تفاصيل الكتاب الذين برعوا في سردهم مستغلين الانعكسات الشعبية والفلكلورية، كما في روايات نجيب محفوظ واحسان عبدالقدوس فهم تعمقوا في قراءة ثقافة مجتمعاتهم وبيئاتهم، وأبدعوا إبداعا رائعا ما زلنا نتذوق تفاصيله في صور سردية تحكي واقعية ومصداقية تلك الأجواء.. فهي شاهد الاصالة والإبداع والزمن المتميز بتراثه ودراميته وانعكاس لطيبة الناس ونبلهم فيه وجمالية متفردة حظينا بها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وتفردنا بها عن غيرنا. وتضيف: في الزمن الماضي أيام كان الناس يتكلمون بحب أكثر، وبمودة أقرب وبانتماء أصدق عما يؤمنون به وما يتوجهون اليه، كانوا يسجلون كل هذا فيما يكتبون: انفاسهم، حركاتهم، عبادتهم طباعهم، طعامهم.. وكان كل ما يكتبون عنه صورة جلية عن يقينهم لذا انعكست ظلاله عليهم. وتؤكد آل حريز تباين صورة الشهر الكريم بين الأمس واليوم قائلة: لنكن موضوعيين ونحن نناقش الأمر، فرمضان مسبقا كان أكثر خيرا، وألفة وعطاء، وأكثر استنفارا لنا ولطاقاتنا، وكنا أكثر التفافا به وشغفا وحبا عما هو الآن.. وتختم آل حريز قائلة: اليوم مع عصر القفز والوثب السريع ثمة نكهة نفتقدها في حياتنا عامة أدت لما يشبه التباعد عن أفق ذاكرة رمضان المنّكهة بالتفاصيل والمحبوكة بروح الانتماء لدقائقه ولطائفه الروحية والشكلية، وبالتالي فإن تباعد الأسفار بيننا وبين إطار الكتابة في روحانية وتفاصيل هذا الشهر كان نتيجة حتمية. الكتابة الذاتية فيما تقول القاصة شمس علي: من المؤسف حقا ألا نجد في المنجز المحلي رواية يحضر فيها رمضان بجمالياته المفعمة، كما من المؤسف أننا افتقدنا على المستوى العربي أوجه استثمار شهر رمضان إبداعيا بكل ما يحوي من حمولات روحية وجمالية وبعد زماني متفرد، وكذلك أوجه تراثية وفلكلورية يمكن أن تغني الأعمال السردية وتكسبها جماهيرية أوسع. بيد أن حضور رمضان للأسف غاب عن أجواء الأعمال الروائية العربية نتيجة التوجُّه الصارخ نحو التجربة الكتابية الإبداعية الذاتية، التي لا تتناول في الغالب المظاهر الاجتماعية إلا فيما يتماس مع الذات، ما أدى إلى اختفاء مظاهر اجتماعية وفلكلورية عدة عن منجزنا الكتابي بخاصة السردي. وتؤكد على أن حمولات رمضان الجمالية لا تزال قابلة للاستثمار مع إمكانية التناول من زوايا متجددة ومختلفة؛ نتيجة ثراء وتنوع واختلاف عادات الشعوب العربية في هذا الشهر. لذا من اللافت ألا تنهمر أقلام العديد من كتاب العرب وتفيض مسطِّرة أعمالاً أدبية غاية في الروعة، تدور في رحى شهر كل ما فيه ينطق بالتغيير، وتتمرد على السائد، وتنحو باتجاه كسر رتابة الحياة. وتضيف: في رمضان الليالي المفعمة بالأجواء الروحانية الساحرة، والتراث الشعبي العبق الذي تسربه عادات باتت عصية على المحو، والنهار الناطق بالمشاعر الفياضة الناجمة عن الإمساك عن الطعام والشراب، وصلة الرحم والتواد والتواصل بين الأهل والأصحاب والجيران، وما ينجم عن ذلك كله من راحة وسكينة فريدة للنفس. كل هذا يبدو من اللافت ألا يكون محرضاً لاجتراح ألوان من الكتابة الإبداعية. نجيب محفوظ فيما يرى القاص كاظم الخليفه أنه "إذا كان هناك اختلاف حول كون الرواية ابنة للمدينة أم لا؟ فإنه لا يمكن الاختلاف على أن ساحة رمضان في السرد وكذلك استحضاره ابداعياً لا يتم إلا من خلال بيئته الحاضنة المثالية والحارة أو "الفريج"، حيث تتضافر عناصر المكان بمكوناته وخصوصاً مساحات الالتقاء بين البشر، وعنصر الزمان المقدس "رمضان"، في إبراز خصوصيته من خلال أحداث عديدة تلتقطها الذاكرة بسهولة وتمد المخيلة بمعين لا ينضب من مواقف في كل ساعة من ساعات هذا الشهر الكريم". ويشير الى ان طبيعة إيقاع الحياة المعاصرة وتغير شرط المكان افقد السرد كثافة الصور واتصالها بمشاهد متقاربة أشبه بشريط سينمائي. وبالرغم من أن الكتابة من خلال الذاكرة تعتبر تأويلاً للحدث أكثر منه سرداً، إلا أن ذلك لا يمنح العذر لروائيين سعوديين في تقاعسهم عن استظهار رمضان الروحي واحتفاء مجتمعنا به لعوامل مختلفة أهمها طبيعة مجتمعنا المتدين، وإن كان الطابع الفلكلوري بدأ في الاضمحلال والتلاشي، وحتى نجد مناسبة رمضانية مهمة كالقرقيعان قد اكتست شكل الاحتفالية المصطنعة بدلا من النشاط العفوي. ويختم الخليفة بالقول: السؤال هنا، لو قيّض للراحل نجيب محفوظ أن يحيا رمضان 2014، وفي أحد أحياء القاهرة الحديثة فهل سيكتب عن إحدى شخصياته الشهيرة في ثلاثيته الرائعة وهي مثلاً السيد أحمد عبدالجواد وأنه سيقدم تهاني رمضان من خلال الآي باد وعلى مقعد في مقهى ستار بوكس؟ لا تراجع وينفرد الروائي صلاح القرشي بنفي وجود التراجع أصلا فيقول: لا أعتقد أن ثمة تراجعا، لكن الروائي لا بد أن يجد ما يستدعي حضور الطقوس الرمضانية وغيرها من المناسبات الدينية والاجتماعية حتى لا تصبح المسألة مجرد إقحام في غير مكانه. ويضيف: واعتقد أن في بعض أعمال رجاء عالم ومحمود تراوري يمكننا ان نتلمس من خلالها هذا الحضور بطريقة تنسجم مع روح العمل الروائي وبيئته وكذلك في بعض قصص عبدالواحد الأنصاري. إلا أنه يستدرك خاتما: وإذا كان ثمة تراجع فلعل السبب فيه اختفاء الكثير من تلك المظاهر الاجتماعية في فورة الاستهلاك وغياب أو تقلص البيئات الشعبية ممثلة في الحارات القديمة بعبقها الاجتماعي والأسري.