حتى في الدول الغربية التي تزعم تقديس حرية الرأي، هناك من ينادي -وبقوة- لحرمان ذوي الآراء البغيضة من اعتلاء منصات الكلام. حيث رفعوا شعار (لا منصة للعنصريين). خصوصاً للمتطرفين أصحاب السمعة السيئة. الذين لا يفوتون فرصة لإثارة النعرات وتأجيج مشاعر الكراهية في المجتمع. لدرجة أن المثقفين التنويريين يرفضون الظهور إعلامياً إلى جانب أولئك البرابرة في منبر واحد، على الرغم من إيمانهم بحق الاختلاف وحق كل إنسان في التعبير عن آرائه. لأن مجرد الظهور مع تلك العينات الفائضة بالشرّ يعطيها رصيداً اجتماعياً. إن السماح لأي رمز من رموز التطرف باعتلاء منصة الحوار ومخاطبة الجماهير؛ للتأكيد على صدقية المنصة ورحابة منبرها، مسألة مرفوضة في الأوساط والمجتمعات التي تحترم الحريات وتقدر قيمة الإنسان. وهي لا تقابل على الدوام بالقبول والرضا. ولا تُصنف في الوعي الاجتماعي كحالة حوارية على الإطلاق. فالتعبير عن الرأي في مكان وزمان محدّد يهبها قوة أكبر في التأثير التدميري. وعليه فإن المنبر الذي ينفتح لتلك الآراء يتحمل المسؤولية في تحويل تلك الثرثرة الكلامية إلى رسائل ذات أثر سلبي هدام في المجتمع. وعليه، يمكن التساؤل عن مغزى بعض الفضائيات من الإصرار على استضافة رموز التطرف والتزمت واستنطاقها على مرآى من الجمهور. وكأنها تؤدي وصلة ترفيهية ضمن حفلة، أو تتبارى ضد خصم غير موجود أصلاً في حلبة للمصارعة. إذ لا يمكن، لا من الناحية القانونية ولا الأخلاقية، تبرير إتاحة الفرصة لشخص ناقم على المجتمع بكل مركباته البشرية ومعتقداته وقيمه، لينفث هلوساته التي يستجلبها من معتقدات القرون الوسطى. وكأن المحطة الفضائية قد عيّنته حكماً يقضي بين البشر لساعة من ساعات الزمن المعتم. هذا النوع من التعبير عن الآراء ليس من الإعلام في شيء، ولا يمت للديمقراطية بصلة. فهو مجرد عبث يهدد السلم الاجتماعي والأمن القومي. وبقدر ما يسيء إلى سمعة الوطن قد يرتد على المنادين بحرية التعبير فيحد من فرص حضورهم. بالنظر إلى ما يسببه من أذى وتخريب في الحقول المعرفية والسياقات الاجتماعية ومسار الحريات. فحرية الكلام ضمن نطاق الكلام العام أو المناجاة الذاتية بحثاً عن الحقيقة لا خطر فيه. أما تحويل المعتقدات الشخصية المتطرفة إلى رسائل وتوجيهها عبر قناة فضائية جماهيرية، فيعتبر كارثة حقيقية. لا أحد يطالب بإسكات الأصوات الناقدة، فهي مطلب من مطالب التنمية. وما أكثرها. إلا أن بحث هذه الفضائية أو تلك عن الجماهيرية من خلال تقديم رموز الظلامية كنجوم، مسألة ارتكاسية لا علاقة لها بحرية التعبير. كما يتبين ذلك الخلل من جرأة أولئك على إبداء آرائهم بحرية قصوى. واستثمار المنصة إلى أبعد حد. مع معرفة الضيف بأنه قد يعاقب على بعض ما يبديه من آراء. وقد يمنع من الظهور الإعلامي مرة أخرى. ولذلك يمارس دور الانتحاري في الفضاء الإعلامي. إن إشاعة مناخ التعبير عن الرأي لا يتم بهذه الطريقة. وخبراء الفضائات يعلمون ذلك جيداً. فهذا النمط من الحرية السلبية له مضاعفات بعيدة المدى. وهم يعرفون أن المنظومة الإعلامية هي محل نقد دائم لأولئك الساخطين على كل شيء. وتقع على قائمة أهدافهم القابلة للتدمير. وما قبولهم بالظهور على تلك المنصات إلا كنوع من الانتهازية الصريحة لاستخدام كل وسائل مخاطبة الجماهير واستثارتها. ما الذي تستفيده قناة فضائية من استضافة كائنات لا تجيد إلا التشهير بالناس وتكفيرهم!؟ وما المجد الذي سيحققه مذيع من استضافة ذلك الطابور من المدعين!؟ وكيف يمكن فهم الذهنية التي تصر على إعادة إنتاج أولئك المغرمين بالدماء المحرضين على العنف بين آونة وأخرى!؟ وهل يمكن اعتبار ما ينادي به أولئك الذين نذروا أنفسهم لتعقيم الآخرين شكلاً من أشكال التبادل الحر للأفكار!؟ وما هي الرسالة القانونية والأخلاقية والاجتماعية التي تريد الفضائيات ايصالها إلينا، من خلال أولئك الذين يتوعدوننا بتكميم الأفواه والتضييق على الحريات وحتى القتل!؟ من يكفر المجتمع لا يحق له مساءلته. ولا ينبغي له أن يكون وصياً عليه. بل لا يستحق التحدُّث باسمه. فهو يقيم خارجه. وبالتالي ليس من اللائق استدعاء أي شخص خارج على المجتمع؛ ليتكلم عن الأصلح والأنفع له من خلال وسيلة إعلامية واسعة الانتشار والتأثير. نفهم أن حرية الكلام والتعبير عن الرأي مكفولة للجميع. وأن إخراس أي أحد ليس من الحرية في شيء. ولكن ليس إلى الحد الذي تتحول فيه وسيلة إعلامية إلى منصة للعنف الرمزي والمادي ضد المجتمع. ومهما ادّعت هذه القناة أو تلك عشقها للحقيقة والحرية فلن تكون أكثر مسؤولية وحرصاً على مشاعر الناس من مجتمعات لها تاريخ طويل مع الحريات. ففي بريطانيا - مثلاً - تعرضت مايا إيفانز للمقاضاة بسبب القائها العلني لأسماء الجنود البريطانيين بدون تصريح. فيما تنفتح الفضائيات لدينا لكل من يبدي استعداداً لكي يؤذينا بشكل أكبر في أنفسنا وأهلنا ومعتقداتنا ووطننا.