لا يوجد مجتمع بدون منصات لما يُعرف بحرية الكلام، ولو في حدها الأدنى. وهي مساحة أضيق من مفهوم حرية التعبير. إلا أن الفارق بين المجتمعات هو وجود أنظمة حماية وتشريعات لوقاية من يمارسون حرية الكلام والتعبير. على اعتبار أن ذلك حق من حقوق الإنسان. إذ لا قيمة لأي تعبير بدون وجود تلك القنوات المتفق عليها ضمن ميثاق قانوني صريح. وبالتأكيد، لا تعني هذه الحرية تمديد فضاء الفرد على حساب المجتمع. والدفاع عن مصالحه بمعزل عن قضايا الآخرين. فحرية التعبير تعني تنشيط كل أفراد المجتمع لإيصال أصواتهم إلى صانع القرار الاجتماعي والسياسي والثقافي ضمن فضاء مفتوح. وتوجيه رسائل صريحة للمعنيين بالوضع العام. فهذا التعبير ليس أداة لتحقيق المطالب وحسب، بل يشمل مقترحات جمالية للكيفية التي يريد بها الفرد أو المجتمع أن يتخيل حياته أو يعيشها فعلياً. حتى في المجتمعات المتحضرة هناك محرمات لا يمكن لأحد مهما بلغت جرأته ومعرفته التقدم باتجاهها. لأنها قضايا تهدد السلم الأهلي. وتكون المنصة حينها أفقاً اجتماعياً مشبوهاً يُجرّم كل من يتحدث فيها ومن يستمع إلى خطابها. ذلك يعني أن حرية التعبير شرط اجتماعي. بل ضرورة للمجتمعات الحية. إذ تنفتح الكيانات الراغبة في التقدم على خطابات التعبير المتعددة، كما تتمثل في الكلمة المكتوبة، والسينما، والدراما، والصور، واللوحات، واللافتات، وكل ما يمكن أن يُعرض اليوم ويُتداول في فضاءات الميديا. بما في ذلك الممارسات الرمزية التي تعبر عن وجهة نظر أو موقف أو رأي جدير بالتأمل. على هذا الأساس يمكن تصنيف المجتمعات وقياس منسوب انفتاحها وتقبلها للرأي الآخر. بمعنى ألاّ تحتكر فئة أو جماعة قنوات التعبير. وتحديد المعايير الحياتية وفق رؤيتها الأحادية. حيث تهيمن على المجتمعات المنغلقة حالة من التضييق تُعرف بعقيدة الحرمان من المنصة. أي منع الرأي المخالف من طرح أفكاره. بل معاقبته إن حاول أن يتجاوز سقف المنصة. حرية الكلام ليست أكثر من طريقة أفقية للتواصل الصوتي، وهي متأتية بشكل مبالغ فيه أحياناً في البيئات المتدنية على مستوى الحياة المدنية. أما حرية التعبير فهي طريقة متقدمة لعرض الحقائق. وهي سمة من سمات المجتمعات الناهضة الفاعلة الراغبة في التغيير. وهذا هو ما يفسر عداء المجتمعات المنغلقة لكافة أشكال التعبير الإنساني كالفنون والآداب. وبالمقابل يمكن قياس حاجة المجتمع إلى التغيير والتقدم والتحضُّر بمدى ما يحتفظ به في سِجله من مراودات لتوسيع هامش التعبير. فهذا الفضاء الحياتي الذي يبدو في ظاهره فضاءً ثقافياً، يخبئ في طياته تاريخ الصراع مع كافة أشكال الحظر والرقابة والمنع. كما يكشف أيضاً عن رصيد المجتمع ذاته من التجاوزات في إطار بحثه عن منصات متعددة للتعبير. وفي هذه الحالة ينزلق الأفراد والمجتمعات في منعطفات تاريخية بالكلام عن كل شيء بدون ضوابط ولا احتراز لما يمكن أن تتسبب به جرعة الكلام الزائد عن الحد. حيث يمكن لفئة أن تعطي لنفسها حق التعبير عن قوتها وما تعتبره حقوقها المشروعة من خلال الرهان على الكثرة. أو تعلن جماعة احتجاجها من خلال خطاب المظلومية المبالغ فيه. وكل ذلك تحت مظلة (حرية التعبير). هذا هو ما يجعل مبدأ حرية التعبير عصياً على التأطير ضمن قانون تشريعي واضح وصريح، يمكن الإتفاق عليه. وذلك بسبب قابليته لتفسيرات متعدّدة، استخدامية في معظم الأحيان. كما يكون دائماً عرضة للتقنين والضبط، وأحياناً للمنع من التداول. أي حرمان كل الأطراف من المنصة. مع بروز قائمة من المحرمات، التي لا ينبغي الخوض فيها. بل قد يؤثّم من يقاربها ولو من باب الاستفهام. حتى في المجتمعات المتحضرة هناك محرمات لا يمكن لأحد مهما بلغت جرأته ومعرفته التقدم باتجاهها. لأنها قضايا تهدد السلم الأهلي. وتكون المنصة حينها أفقاً اجتماعياً مشبوهاً يُجرّم كل من يتحدث فيها ومن يستمع إلى خطابها. كما يبدو ذلك واضحاً ومثيراً للحسرة في مسألة التعاطي مع الكتاب. إذ لا يوجد مجتمع بدون تاريخ في حرق الكُتب وإتلافها وإغراقها. [email protected]