ظلّت ولم تزل مسألة تنازع الاختصاص بين المحاكم بمختلف تخصصاتها تمثل الهاجس الأكبر للأجهزة العدلية في الدولة وللأشخاص على السواء، ذلك بسبب التداخل الحادث بين الرؤى حول هذه المسألة بالرغم من أنّ النظام قد حسمها في نصوصه الواضحة والتي كثيراً ما يقع البعض في خطأ تفسيرها وفهمها في صورتها الدقيقة بحسب ارادة المشرع، خاصة مسألة الاختصاص النوعي، ما أضاع مقتضيات العدالة بسبب تأخير الفصل في النزاع بين أطرافه، ولقد انتشرت في الآونة الأخيرة الكثير من حالات رفض الدعاوى أمام ديوان المظالم -المحكمة الإدارية- بسبب عدم الاختصاص الولائي ، وكما يبدو أن الديوان قد أصبح يتجه الى الاختصاص الدقيق ومن ثمّ التخلي عن تلك الصورة الفضفاضة لمعنى الولاية والاختصاص، حيث كانت تدخل معظم صور المسائل المتنازع عليها تحت اختصاصه في السابق، ما سبب رهقاً وازدحاماً كانت تضيع بسببه فرص تحقيق العدالة بسبب تفاقم أضرار التأخير. وقد بدأ الحال يتغير اليوم حيث خرجت الكثير من المسائل المتنازع عليها من مظلة اختصاص الديوان -المحكمة الإدارية- إلى اختصاص المحاكم العامة التي لم تكن قد اعتادت على ذلك ، ما جعل مسألة الاختصاص في تنازع أمام الجهتين لدرجة جعلت ديوان المظالم -المحكمة الادارية- يسعى لأن يقف فقط عند التخصص البحت والدقيق، وهذا هو الاتجاه الصحيح والحقيقي بالفعل، ولو أنّ حلقات هذا التوجه قد اكتملت لكانت قد انتهت الكثير من حالات المعاناة التي يعاني منها المتقاضون والقضاة، ويتحقق ذلك بإنشاء المحاكم ذات التخصص الدقيق لتقوم بالدور المناط بها في كافة أرجاء المملكة، بما يجعل الرؤية واضحة أمام المتقاضي العادي فيتمكن من اقامة دعواه أمام جهة الاختصاص من أول وهلة، ومن ثم تفادي التأخير الذي كثيراً ما كان يهدر معنى العدالة في صورتها الرفيعة، ذلك أن الحق عندما يُحكم به متأخراً تكون العدالة منقوصة في درجة من درجاتها بحسب مقولة (انّ تأخير العدالة ظلم وإنْ تحققت بعد حين) . ولقد صدر لأكثر من عشر سنوات خلت تعميم يوضح معنى القضايا التجارية الأصلية البحتة والقضايا التجارية بالتبعية في محاولة لإزالة اللبس الحادث بينهما وتداخلهما مع نشاطات قد تبدو غير تجارية في ظاهرها في حين انها تجارية في جوهرها، وحقيقة الامر ان هذين المصطلحين ظلا ولم يزالا يشكلان غموضاً مستمراً وتداخلاً بين صحيح الفهم لمعنى مفردة تجاري وتفسير معنى العملية التجارية أصلية كانت أم تبعية، وعندما يحسم الأمر حسماً دقيقاً بتحديد صفة أطراف النزاع يسهل وصف النزاع دون لبس يؤدي بهما الى الوقوع في متاهة عدم الاختصاص، وبالرغم من أنّ المحاكم التجارية قد انشئت منذ مدة ليست بالقصيرة، الا اننا نجدها حتى الآن ما زالت تقع في ذات الاشكال السابق، حيث كثيراً ما يتوه البعض ما بين اختصاص المحكمة التجارية والمحكمة العامة في مسائل تبدو في ظاهرها تجارية بحتة لولا أنها تعلقت بمسائل ترتبط باختصاص المحاكم العامة كتلك المسائل التي تتعلق بالعقار عندما يكون طرفا النزاع ذوي صفة تجارية، وأن النشاط بينهما تجاري بحت والنزاع بينهما يتعلق بالعقار، وما أن ارتبط النزاع بالعقار نجد المحاكم التجارية ترفض الدعوى لعدم الاختصاص دون التأمل في طبيعة نشاط طرفي الدعوى وجوهر النزاع بينهما، وكذلك يتكرر الأمر لدى المحاكم العامة حيث نجدها أيضاً ترفض الدعوى متى ما لاح لها أن طرفيها تاجر وأن النشاط الذي انتج النزاع بينهما نشاط تجاري وهكذا دواليك نجد المتقاضين يدورون في هذه الحلقة الخانقة للعدالة، والمشرع والقضاء في المملكة لازالا يبحثان عن سبل الخروج من هذا الاشكال وسيظل الامر معلقاً ما بين التفسير الدقيق لمعنى الاختصاص والفهم الصحيح لطبيعة النشاط وصفة طرفي الدعوى حيث يتشكل المعيار الرئيس الذي من خلاله يسهل تصنيف الدعوى ما اذا كانت تدخل في ولاية اختصاص المحاكم التجارية أم في ولاية اختصاص المحاكم العامة ليزول الغموض الذي ارتبط بمثل هذا التداخل حتى تتضح الرؤية من اول وهلة. فتنأى المحاكم عن ضياع الوقت ويهنأ القضاة والمتقاضين بحسن سير العدالة وكسب الوقت والجهد.