لا جديد ينتظر عما فضح على الملأ وأصبح أكثر من معلن. الاخ الاكبر، الولاياتالمتحدةالامريكية، جاسوس كبير، يتجسس على كل شيء. ولكن ما حصل في المانيا خصوصا له معناه. صحيح ان الاخ الاكبر لا يميز بين صديق وعدو سياسي، بين مواطن اعتيادي او مسؤول رسمي، بين محل تجاري ومؤسسة صناعية، بين شخصية ثقافية وقائد حزبي، بين ناشط سياسي ومنظمة اجتماعية، بين سفارة دولة ومركز ثقافي اهلي. يترصد كل ما يريده ويضعه في برامجه ومخططاته، من الهواتف والرسائل والبريد الالكتروني والأسرار الشخصية ويستخدم كل ما يتمتع به الانسان من خيرات التقنية الحديثة، عبر برامج تجسسية خاصة وباساليب لا اخلاقية تماما. فضحت بالدليل الملموس ومن اهلها ولا حاجة بعد الى سؤال او انكار او تردد. في صورة مركبة ومصنعة بقدرات فنية وزعت في البريد الالكتروني تظهر الرئيس الامريكي باراك اوباما يتلصص على المستشارة الالمانية انجيلا ميركل وهي عارية في الحمام من خلف استاره. وهذه الصورة المركبة تقنيا تظهر او تبين سقوط اخلاق الاخ الاكبر وتعري اعماله المعروفة في هذا المجال. فهو بكل تأكيد لا يحتاج الى تعليق في المجالات الاخرى، حيث تتكشف ازدواجية المعايير في سياساته وممارساته الدولية. وكل ما يقوم به الان يثبت ذلك ويزيد اقناعا بما يمكن ان يمارسه علنا او سرا. مع المانيا، الدولة الصديقة الكبيرة للولايات المتحدةالامريكية، على الجانب الاخر من المحيط الاطلسي والتي تقود قاطرة الاتحاد الاوروبي، الحليف للإدارة الامريكية، لم يتوان الاخ الاكبر في التجسس عليها، داخل اراضيها وخارجها، في سفاراتها، سواء في الولاياتالمتحدة او خارجها ايضا. الامر الذي ترك ردود فعل حادة عند المستشارية الالمانية ودفعها الى اتخاذ اجراءات متعددة توجه فيها رسائل ساخنة الى اخيها الاكبر. بدأتها المستشارة الألمانية مشددة على أهمية إرساء علاقة من الثقة، وقالت «أعتقد أنه في هذه الأوقات التي تكون ملتبسة جدا من الضروري أن تكون الثقة متبادلة بين الحلفاء»، مضيفة إن «مزيداً من الثقة يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الأمن». كما أشارت إلى أن «أنشطة التجسس على الحلفاء هي إهدار للطاقة». ووضعت كل ذلك امام اخيها الاكبر لتطلعه على خسة تصرفه معها شخصيا ومع حكومتها وبلادها والعلاقات بينهما. وتحت هذه الكلمات الدبلوماسية تجري اجراءات رسمية اقل ما يقال عنها انها تعكس غضبا وانزعاجا كبيرين. من بين تلك الاجراءات رد الحكومة الالمانية بطرد ممثل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي أي) في بلادها، في إطار قضية التجسس التي قام بها ألماني لصالح واشنطن. وقال المتحدث باسم الحكومة شتيفن سايبرت، في بيان، إنه «طلب من ممثل الاستخبارات الأمريكية في سفارة الولاياتالمتحدة مغادرة ألمانيا». ولفت سيبرت الانتباه، إلى أن الحكومة الألمانية تأخذ موضوع التجسس على محمل الجد، إلا أن التعاون الوثيق مع الولاياتالمتحدةالأمريكية يصب في مصلحة ألمانيا!. وأوضح النائب الألماني كليمنس بينينغر رئيس لجنة المراقبة البرلمانية لنشاطات الاستخبارات، أن هذا الإجراء جاء «رداً على غياب التعاون منذ فترة طويلة في الجهود لتوضيح» نشاطات رجال الاستخبارات الأمريكيين في المانيا. أعقب هذه القضية وخلال خمسة أيام، فتح القضاء الالماني، (وكالات 10/7/2014) تحقيقا في قضية تجسس ثانية، حيث تحدث الإعلام الالماني عن مشتبه فيه ثان يعمل لحساب الولاياتالمتحدة ايضا، وهذا اذا ثبت سيزيد في تعقيد العلاقات بين الدولتين. وتابعت وسائل الإعلام الألمانية الموضوع كثاني قضية مرتبطة بالولاياتالمتحدة، واعتبرتها «أخطر» من تلك التي تورط فيها عميل مزدوج تجسس لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي أي) وأوقف قبل أسبوع على خلفيتها. وقال الناطق باسم المدعي العام الألماني، في بيان، إن «عمليات تفتيش منزل ومكتب شخص يشتبه في تورطه في تجسس في منطقة برلين، تجري بإدارة ممثلين عن المدعي الفدرالي»!. وقالت وزيرة الدفاع الألمانية اورسولا فون در ليين: «أعتقد أن الحكومة الألمانية وجهت اليوم إشارة واضحة مفادها أن هذا النوع من كسر الثقة لن يكون مقبولاً بعد اليوم وأن علينا العمل على انطلاقة جديدة»، في العلاقات الألمانية الأمريكية. قضيتان متتاليتان ومن طرف الاخ الاكبر وعبر ارتباط واضح، رغم ان التطور التقني الالماني يضرب المثل فيه كالأمريكي ويستغرب تأخره في الكشف والاعلان. ولكن الان الصورة تغيرت وأصبح الالمان امام صخرة الواقع. التجسس عليهم تم من طريقين او اتجاهين. وليس من محاولة واحدة. تجسس امريكي مباشر وتجسس من داخل المانيا، من مواطنين المان لحساب الولاياتالمتحدةالامريكية. سبق وان نشرت وسائل الإعلام أخبارا عن تجسس الولاياتالمتحدة على حلفائها الأوروبيين وأثارت في حينها موجة احتجاجات، خاصة من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان وإسبانيا. وجاءت اعترافات ادوارد سنودن ووثائقه شاهدا كبيرا وموثوقا لها. بينما ظلت الاصوات خافتة او خجولة، كما علق مراقبون اوروبيون الى أنه لا يمكن أن تكون ألمانيا بكل قدراتها العلمية المتفوقة على كل شركائها لم تعرف أن الأجهزة الأمريكية تتجسس على هاتف مستشارتها ميركل. وإذا كان هذا قد حدث فعلا فإن هذا أمر خطير ومؤشر عن تراجع للصناعة الاستخبارية الالمانية. الامر الذي يثير اسئلة اخرى عن كيفية تعامل الولاياتالمتحدة مع حلفائها واخوتها الصغار الاخرين وردود افعالهم ازاءها وقدراتهم التقنية في مواجهتها. كما بات معلوما ان الولاياتالمتحدة لا تتوانى عن التجسس على ما تسميه اعداءها او منافسيها او خصومها المحتملين او ما يمكن ان يقوم بكل ذلك ضدها. اما وان تكون دول الاتحاد الاوروبي ولاسيما المانيا وبريطانيا، وغيرهما من اقرب الحلفاء لها والذين شاركوها في حروبها وصراعاتها وغزواتها، هم ضحاياها، فان الواقع هذا يقول بأنها لا تهتم حتى بكل ما قدم لها وان مصالحها الاولى هي الاولى. من بين وثائق سنودن التي نشرتها الصحافة الاوروبية وثيقة صادرة من وكالة الامن القومي (ان.اس.اي) عام 2010، احتوت على قائمة اهداف للتجسس ضمت 38 سفارة وبعثة دبلوماسية، من بينها سفارات وبعثات الاتحاد الاوروبي في نيويوركوواشنطن، والسفارات الايطالية والفرنسية واليونانية، وكذلك شملت حلفاء الولاياتالمتحدة في اسيا مثل كوريا الجنوبية واليابان والهند. هذه القائمة وغيرها تعري الاهداف التي تتجسس عليها الاجهزة الامنية الامريكية وهي اذ تتجسس على سفارات اقرب حلفائها في اوروبا وشرق آسيا فمن الطبيعي ان تتجسس على غيرها ولاسيما الدول العربية والإسلامية، صديقة كانت او عدوة لها، او حسب سجلاتها معها وبالشكل نفسه، من جانبين، من قبل اجهزتها مباشرة او من عملاء محليين كما هو الحال في المانيا. صراعات الاخوة تكشف معناها ودلالاتها وتفضح المصالح الحقيقية لكل اخ منهم. فالأنظمة الرأسمالية يهمها مصالحها قبل غيرها. وهو امر معلن ومفضوح، فهل تنفع الموعظة بعد؟!.