أخبار الأعمال الإرهابية، والتكفير السياسي، وقتل المسلمين تحت ذرائع دينية، أو الاعتداء على مقدسات الآخرين مستمرة منذ ما قبل شهر رمضان المبارك، وبينما يقترب المسلمون من منتصف شهر الرحمة والقرآن، ومراجعة الذات. ومع أن الله - سبحانه وتعالى - كفى المسلمين كيد شياطين الجن في هذا الشهر الفضيل إلا أن الشيطان الأكبر هذه الأيام هو من سيطر على أفكار شريحة من المسلمين لتبرير استباحة حرمة شهر رمضان، وحرمات المسلمين والضرورات المحمية شرعاً وعرفاً وإنسانياً. لكن بعض الشبان المتحمسين للدين أخذتهم الحماسة وربما الغيرة الدينية لتبرير التكفير أو الاستجابة لدعاة الفتن الذين ينظرون من نظارات ضيقة لا ترى سوى مصالح بعض الانتماءات أو الأحزاب السياسية أو الجماعات المعارضة في دول مجاورة، والبعض الآخر ربما تأخذهم الرغبة في الانتقام بعد ما شاهدوا الظلم الذي وقع على طائفتهم في بعض هذه الدول. وفي حالات معقدة مثل هذه حيث يتم ترويج الفتنة بضاعة مفخخة عبر وسائل التواصل التفاعلية، سواء من بعض من تم اصطيادهم عبر العواطف الجياشة ليروا في نشر هذه الدعوات وسيلة لدعم الإسلام، أو من عناصر تمولهم بعض الكيانات المستفيدة من تقزيم الدول الكبرى في المنطقة لتحقيق نفوذ غير طبيعي لها يقفز على حقائق الجغرافيا وقواعد التاريخ. لا مجال للخلاف هنا.. أن من المظاهر الصحية أن يتم تداول أخبار الفساد، وكشف الأخطاء التي تقع فيها دوائر الدولة مهما علا شأنها، فنحن لم ولن نكون يوماً ما ننتظر أن نصبح مجتمعاً أفلاطونياً خيالياً أو ملائكياً لا يخطئ، بل نحن - كما في كل المجتمعات الحضرية - بحاجة إلى دعم الشفافية وتطوير الرقابة المجتمعية والإعلامية لأعمال الجهات الحكومية والقضاة والمتنفذين. لكن فرز وتحليل كثير من المضامين التي تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي يشير إلى وجود باقات مصممة تمرر عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحتوي على مجموعة من الأخبار المحلية حول الفساد، وإشاعات حول مظلوميات سياسية لدول تربطها بالمملكة علاقات جوهرية، ويتخللها تعليقات ومقالات تعزف على وتر المشاعر أو الدين. وبقدر صعوبة إيقاف أو صد أو إغلاق هذه المضامين الموجهة فإن وسائل الإعلام التقليدية لاسيما التفاعلية لا يمكن أن تقاوم هذا المد الكبير من المضامين المضللة، أو الكشف عن عدم صحتها، فعملية التصدي إليها تشبه إلى حد كبير محاولة تصدي رجل قوي لمليارات من ذرات المياه تشكل موجات هائلة في المحيط الهادي. ومع هذا فإن المجتمعات الإسلامية تخطت الفتن والعواصف السياسية منذ ميلاد الدولة الإسلامية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا الحاضر، مقتدين برواد المذاهب الإسلامية منذ الإمام مالك رحمه الله وإلى عصر الإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله جميعاً والذين لم يؤسسوا الأحزاب أو التجمعات المعارضة باسم الدين. ولم يستغلوا المظالم التي وقعت في البلدان الإسلامية لإثارة الفتنة، ولم يدعوا إلى تعميم شكل سياسي معلب للحكم الإسلامي، بقدر ما تفرغوا لمحاولة إزالة الغمام عن المسائل الملتبسة لضمان استمرار فهم عميق للإسلام لا يشوبه الضغينة أو الانتقام أو العصبية مع أنهم دفعوا الكثير إخلاصاً لهذه القضية. اليوم ونحن نودع ثلث الرحمة من رمضان، ونصوم ثلث المغفرة، أليس المقام لتمعن فكر هؤلاء الرجال العظام الذين قضوا حياتهم في دراسة الفقه الإسلامي ليصلوا إلى نتيجة واحدة وإن اختلفوا في المسائل الهامشية، وهي أن الخلاف حول القضايا يجب أن يجر إلى العصبية، وأن الوقوف أمام المظالم حسنة، لكن استغلال المظالم لإثارة الفتن واحدة من السيئات التي لم يقترفها أحد من هؤلاء الإجلاء. فكيف إذا أدى تفسير الممارسات السياسية أو رصد المخالفات والمظالم أو العصبية السياسية إلى استسهال جريمة التكفير أو ممارسة أعمال الإرهاب وقتل المسلمين -أياً كان مذهبهم الديني والسياسي- وحتى تبرير هذه الأعمال المنكرة، أو إثارة الفتن والدعوات لزعزعة الاستقرار في ظروف مثل التي تمر بها المنطقة العربية منذ ثورة تونس وإلى ما بعد التدافع الشعبي والسياسي في هذه الدول. فإذا كان القتل جريمة وإذا كانت الفتنة أشد من القتل، فإن النفوس المطمئنة ذات الفطرة السليمة لا يمكن أن تستشعر روحانية هذا الشهر وتفتح قلوبها صادقة لمناجاة الله، وهي مسودة بالحقد والضغينة والتكفير والكذب أو ترويج الأخبار المثيرة للشحناء دون تثبت فضلاً عن المشاركة في قتل المسلمين تحت أي ذريعة. ولعل تصرف أحد المبتعثين في اليابان بتكسير تماثيل في أحد المعابد صورة من صور الحماس المجرد من العلم الشرعي أو فهم مقاصد وروح وسماحة الإسلام الذي حرم الاعتداء على الذميين والمعاهدين وسباب أرباب غير المسلمين أو استباحة الكنائس ودور عبادتهم بما تحويه من تماثيل أو لوح أو زخارف، وحتى مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن. وبالرغم من فداحة هذا العمل إلا أن ما هو أكثر جرماً وفداحةً، شحن وتعبئة الشباب بصورة تفوق نضجهم وفقههم بمقاصد الدين والواقع سواء باتجاه كره الآخر غير المسلم أو نحو التكفير بالظن أو المعصية أو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وبسلطة القضاء.