يبدو أن حضور خريطة المملكة أمام أعيننا في كل مكان، في المناهج الدراسية والقنوات التلفزيونية والصحف والمؤسسات بأنواعها وغير ذلك، أدّى إلى اختصار هذه المساحة الكبيرة لجسد وطننا العملاق إلى مجرد بقعة خضراء صغيرة نختزنها وجدانياً في أعماق ذاكرتنا. الحقيقة أن المملكة تُعد جغرافياً شِبْه قارّة، حجمها يتجاوز المليوني كيلو متر مربع، وهو ما يفوق مساحة فرنسا أكبر دول الاتحاد الأوروبي بأربعة أضعاف تقريباً، ويفوق أيضاً مساحة اليابان بحوالي ستة أضعاف. هذه المساحة ضخمة جداً، خصوصاً إذا وضعنا في الحُسبان العِبْء اللوجستي على الدولة في توزيع الخدمات والمرافق الحيوية بشكل مُرْضٍ وعادل على جميع مناطق ومدن وقرى هذا الوطن الكبير. لكن مسألة توزيع الخدمات والمرافق الحيوية في مساحة جغرافية ضخمة كالمملكة يزداد تأزماً وصعوبةً مع وجود فكرة «المركزية» وتغلغلها داخل منظومة العمل الإداري الحكومي. «المركزية» تعني تركيز سلطة اتخاذ القرار في كيانات وشخصيات بعينها. في حالة المملكة، تكون وزارة الصحة، مثلاً، بمركزها الرئيس في الرياض مسئولة عن كل حالة صحية داخل المليوني كيلو متر مربع، من أقصى الشمال إلى الجنوب ومن أقصى الغرب إلى الشرق. نظرياً هذا الأمر ممكن، أما عملياً فيمكن التعرف إلى مدى فاعليته من خلال الكم المتدفق من شكاوى المواطنين على كافة مرافق الصحة وخدماتها. ستنتهي مع المجالس المحلية ظاهرة تركز الخدمات والمرافق في مناطق دون أخرى، وسيساعد ذلك على تطوير المناطق كافة وزيادة جاذبية السكن والعمل فيها، بما فيها المناطق البعيدة عن المركز. وسيتسابق أبناء كل منطقة على إبراز منطقتهم وتطويرها وتفجير الفرص والإمكانات والطاقات الكامنة فيها، في ظل وطن كبير واحد، سنظل نفخر به وبكل جزء منه.والأمر لا يختلف كثيراً عن الخدمات والمرافق الأخرى التابعة لوزارات عديدة. خليط «المركزية» البيروقراطية مع التباعد الجغرافي أدى إلى خلق ما يمكن تسميته بإشكالية «المساحة الخانقة» لدى المواطن السعودي. وطن باتساع كبير وموارد وفيرة، وخدمات ومرافق تُضيّق مساحة رضا المواطن، وتخنق استفادته من هذه الموارد، وتحصره في مناطق مركزية كبرى مكتملة خدمياً.. لكنها محدودة جغرافياً، ومتكدّسة سكّانياً. والسبب المركزي هو «المركزية» العقيمة ونزعة حصر صناعة القرارات داخل دائرة ضيقة من الأفراد والمنظومات. وزير الصحة ليس أعلم من أهل نجران باحتياجات منطقتهم صحياً، ووزير التعليم ليس أعلم من أهل الجوف بهموم منطقتهم وأولوياتها تعليمياً. الدولة حالياً في حاجة ماسة إلى تفكيك دور وزاراتها، ونقل صلاحيات الوزارات ومسؤولياتها إلى مجالس محلية مستقلة مالياً وإدارياً، تابعة للمناطق الإدارية الأساسية في المملكة (13 منطقة إدارية)، تكون هي المسئولة أمام أهل كل منطقة عن توفير الخدمات والمرافق الحيوية من تعليم وصحة وإسكان ونقل وغير ذلك، بالأسلوب الذي يناسبهم ويرضي طموحاتهم ويُصلح أحوالهم. ليس من المجدي أبداً بعد الآن أن تُفصِّل الوزارة في الرياض، ويلبس أهل جازان والحدود الشمالية وعسير وحائل وتبوك. لكل منطقة احتياجاتها وظروفها الخاصة، وأهل كل منطقة أدرى بشعَبها وشِعابها من إداريين قابعين في مكاتبهم الوثيرة في العاصمة. إن تفكيك صلاحيات الوزارات ونقلها لمجالس محلية مستقلة من شأنه الارتقاء بمستوى أداء الخدمات في كل منطقة وزيادة نسبة رضا المواطنين عنها؛ فإدارة مرافق الصحة، مثلاً، في منطقةٍ ما عدد سكانها 4 ملايين نسمة، أسهل عملياً من إدارتها لخدمة 27 مليون نسمة في كامل المملكة. كما أن من شأن نقل صلاحيات الوزارات إلى مجالس المناطق أن يؤدي أيضاً إلى تنافس المناطق في تقديم الأفضل والأجود من الخدمات والمرافق من أجل تطوير مناطقهم وتحويلها إلى مراكز جاذبة للكفاءات والاستثمارات، ما يؤدي وطنياً إلى كثرة وتنوع تجارب تقديم مختلف الخدمات (الصحة، التعليم، القضاء، المرور، البلديات.. وغيرها) ليمكن بعد ذلك نقل التجارب الناجحة منها بسهولة من منطقة لأختها للاستفادة منها. «المركزية» فكرة معقولة إذا كان نطاق العمل محدوداً ومهماته محصورة. لكن أن يكون نطاق العمل هو بلد بحجم المملكة فذلك، إن لم يكن صعب التطبيق ومحفوفاً بالمعوقات، فهو أمر لا يُحتمَل في بطئه وترهله، وقصور رؤيته، ووصايته الثقيلة على أوجه حياة الناس في كل المناطق. المجالس المحلية ستكون أكثر قرباً لحلم حكامنا في تقديم أفضل الخدمات لمواطنيهم، حيث ستكون هذه المجالس أكثر فهماً لاحتياجات سكانها وتطلعاتهم وأكثر قرباً منهم من الوزارات المركزية، وستكون أسرع استجابة في توفير الخدمات وتلبية الطموحات وإدارة الأزمات، وسيكون من السهل تقييم أدائها وإكمال تقصيرها وتحسين مستواها. كما ستنتهي مع المجالس المحلية ظاهرة تركز الخدمات والمرافق في مناطق دون أخرى، وسيساعد ذلك على تطوير المناطق كافة وزيادة جاذبية السكن والعمل فيها، بما فيها المناطق البعيدة عن المركز. وسيتسابق أبناء كل منطقة على إبراز منطقتهم وتطويرها وتفجير الفرص والإمكانات والطاقات الكامنة فيها، في ظل وطن كبير واحد، سنظل نفخر به وبكل جزء منه. [email protected]