في أحد نصوصه القصيرة يكتب: (وسألنا الغراب: كيف صرت طيراً ناصع البياض؟ فأجاب: الفضل كله للإرادة والتصميم والعمليات التجميلية). في عالم القصة القصيرة، والمقالة الساخرة يبرز اسم لامع من الأسماء العربية التي يشرف طالب الأدب بقراءتها والتتلمذ عليها، إنه زكريا تامر؛ ذلك الكاتب الإنساني بدرجة امتياز مع مرتبة شرف المعاناة والخلود, وزكريا تامر من النوع القليل والقليل جداً من كتاب القصة القصيرة، فهو لا يدهشك ولا يثير إعجابك، بل يدوّخك ويملؤك بالضجيج الإنساني الناشئ من أشكال الاستبداد والتنكيل السياسي. القصة في عالم زكريا تامر ليست قصة معقدة، ولا تحتاج لرؤية ناقد يشرح غموضها أو يبشّر بثقافتها، كما أنها ليست بحاجة لمرسوم جمهوري يفرضها على الشعب أو يمنعها منهم، إنها قصة أقرب ما تكون من روح الإنسان ومعاناته، ولزكريا تامر حرفته وحرفنته في اللعب على أوتار الرمزية الشفافة، تلك الرمزية العميقة التي تقرؤها في قصصه وتشعر كأنك ملكت الحقيقة أو اقتربت منها، غير أن شفافيته الرمزية ستثير غضبك وشعورك بالكُره.. لكل القساة والظلمة والمستبدين، حتى وإن كنت تعرف عن الاستبداد والقسوة، ولكنك مع قراءة قصص زكريا تامر فإنك ستشعر برؤية غريبة تداخلك وتشكّل فيك رؤية من نوع خاص، ويبدو ذلك في العديد من مجاميعه القصصية ومنها: دمشق الحرائق، النمور في اليوم العاشر. الأرض والجسد الإنساني معادلان لبعضهما، وهما في قصص زكريا معرضان للاغتصاب من الجلادين، وهذا الأمر واقعياً يبدو مؤلماً وحزيناً، لكن «تامر» يحوله إلى تماهٍ وحلول وفناء حيث يفنى الجسد في الأرض بدمائه، وتحتوي الأرض الجسد المغتصب عليها، وكلاهما يشكّل علامة فارقة في الوقوف ضد أشكال القمع والقهر خاصة ما تراه اليوم من أعمال الاستبداد والقتل من قبل النظام في سوريا/ الأرض، وشعبها/ الجسد.لم يأت زكريا تامر لعالم الأدب من بيوت المشيخة، ولم يكن والده مديراً لجامعة، ولم يكن خاله وزيراً من الوزراء، ولم تكن قبيلته من تلك السلالة العثمانية المباركة، ولم تكن أسرته تقف وتتسوَّل على الأبواب لتأخذ حقها وحقوق غيرها، بل كان الرجل حدّاداً بعد أن أجبرته الظروف على ترك دراسته عام 1944م، صحيح أنه ترك الدراسة منذ وقت مبكر في حياته لكنه صار فيما بعد يكتب كتابات لم ولن يستطيع أصحاب الشهادات والقيادات والباشوات في عصره الكتابة مثلها أو مجاراتها، ولعل مهنة طرق الحديد جعلته ذا عزيمة وطموح غريب، واستطاع أن يلين الكلمات والجمل والعبارات بشكلها الرائع الجميل وهو الذي ليَّن قبل ذلك الحديد، وغريبة تلك الحرفة التي ألهمته وألهمت الخليل بن أحمد الفراهيدي من قبله طريق الإبداع وانتصار الإنسان بنظام الإيقاع على نظام البعث والعبث والاستبداد السياسي في سوريا المنكوبة، ولذلك فهو يقيم في خارجها وتحديداً في لندن من بداية الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين. للأرض والحب والعلاقة الوجودية بين الرجل والمرأة نصيب كبير من قصص زكريا تامر، بل ربما شكّلت سياقها ومعناها الأهم في مقابل (الشرطي) المستبد الذي سرق الأمان والأوطان من أهلها وناسها، فالأرض والجسد الإنساني معادلان لبعضهما، وهما في قصص زكريا معرّضان للاغتصاب من الجلادين، وهذا الأمر واقعياً يبدو مؤلماً وحزيناً، لكن تامر يحوّله إلى تماهٍ وحلول وفناء، حيث يفنى الجسد في الأرض بدمائه، وتحتوي الأرض الجسد المغتصب عليها، وكلاهما يشكّل علامة فارقة في الوقوف ضد أشكال القمع والقهر خاصة ما تراه اليوم من أعمال الاستبداد والقتل من قبل النظام في سوريا/ الأرض، وشعبها/ الجسد.. لنقرأ هذا النص من نهاية قصة: الشجرة الخضراء، من مجموعة: دمشق الحرائق: (وصمت طلال ورندا لحظة أبصرا رجالاً مسلّحين ببنادق يقتربون منهما وهم يدقون الأرض بأحذيتهم الثقيلة. طلب واحد من الرجال من طلال ورندا الابتعاد عن الشجرة الخضراء فأطاعا، ووقفا على مبعدة يسيرة يحدقان بذعر إلى الرجال الذين كانوا يوثقون بالشجرة رجلاً ذا ثياب ممزقة ووجهٍ دامٍ، ثم وقفوا قبالته مشدودي القامات، وسدّدوا بنادقهم إليه، وأطلقوا النار عليه دفعة واحدة، فاخترق الرصاص الرجل والشجرة وسقطا معاً إلى الأرض، فبكت رندا بينما كان الرجال يسيرون مبتعدين بخطى رتيبة، ثم اندفعت نحو طلال، وألصقت رأسها بصدره، فلف ذراعيه حولها، وضمّها إليه، فباتا مخلوقاً واحداً يرتجف راغباً في الفرار، ثم ما لبثا أن تحوّلا صخرة). [email protected]