نلاحظ أن السرد القصصي في مجموعة «عناق» القصصية، للقاص السعودي جمعان علي الكرت، يقدّم أبطالًا مأزومين في حياتهم، وواقعهم اليوم المعاش، بتعبير آخر لا يعرفون أن يتعايشوا مع هذا الواقع، أو لعلهم لا يريدون ذلك، لأنهم يرونه واقعًا رثًّا تكسر فيه الروح والأحلام، ولذا فهم يرفضون هذا الواقع، بالنفور منه، وإن أرادوا التصالح معه، فإنهم لا يستطيعون إلى ذلك سبيلا، لأنهم مهزومون على المستوى الإنساني والعاطفي، والاجتماعي. أو تهبط عليهم المواجع والهموم، فينكفئون على أنفسهم حزانى أو مقهورين، أو مستلبين، ففي القصة الموسومة ب»غرفة رقم 34»، يعاني بطل القصة من تأزّم نفسي حاد نظرًا لمرض زوجته مرضًا حادًّا، وخبيثًا، ولا يشير الخطاب القصصي إلى نوع هذا المرض، بل يبدو من السرد القصصي أنه مرض السرطان الخبيث، وإزاء هذه الحالة يضطرب البطل، ويفقد تركيزه، وتوازنه الإنساني، ويعاني من اضطراب حاد في حياته وسلوكه، وحلّه وترحاله، يقول السارد: «أمّا أنا فحزني يسير على قدمين، زوجتي تتشح بالبياض على سرير أبيض في مستشفى قريب، وأطفالي الغرّ على بعد آلاف الأميال، وأنا أنفرد في غرفة مسكونة بالحزن». ص 18. و: «بعد نضال نهار بكامله يزداد ألمي حينما أتذكر زوجتي وهي تئن من آلام شديدة تسكن في مقدمة رأسها، ويزداد حزني عندما يلوح طيف ابني الصغير..». ص 18. وإذا كانت مأساة بطل هذه القصة «غرفة 34» هي مأساة فردية خاصة، تتعلق بحياته الخاصة، وحياة أسرته وأطفاله تحديدًا، فإنها في القصة الموسومة ب»حنجرة الليل» تصبح مأساة جمعية، إذ يشير الخطاب القصصي بشكل رمزي، إلى مأساة الإنسان العربي بشكل عام، تقول القصة: «لم تكن الحركة الهامسة بعد منتصف الليل وحدها تثير فزعه، بل الصوت المتقطع الذي يهزّ أوتار أذنيه أيضًا. يدخله في دوّامة من التساؤلات. من.. ما.. ماذا... إلاّ أنّ تكرارها -وفي مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل، ولمدة أسبوع كامل- يحرّضه على ترقب الهمس الليلي». ص 23. إنّ حالة الترقب واليأس والقلق والسواد والفجيعة لهي حالة عامة ترافق المواطن العربي، في أفقه وأحلامه التي قلما تتحقق. هو يحزن ولا يعرف بالضبط مصدر أحزانه، وهو يخاف كثيرًا، ومن دون أسباب جوهرية ومقنعة في بعض الأحيان، وبطل قصة «حنجرة الليل» يريد أن يعرف الحقيقة، وهو يبحث لأن يصل إليها، وعندما يصل، ولو لجزء يسير منها، سيصيبه فاجع أسود، وخيبة عامة، وخوف يشلّ بحثه. تقول القصة: «أحنى جسده الأعلى نحو الخارج، فيما ظلّ ممسكا بيده اليسرى -وبتوتر- مقبض الباب.. شاهد عينين مفزعتين ينبعث منهما بريق ناري مرعب وأجساد ضخمة تتدثر في ملاءات سوداء، لم يتمكّن من تفحص وجوهها بشكل دقيق، أغلق الباب بسرعة فائقة إلاّ أن الصوت الحزين ازداد وضوحًا وكأنه يتصبب من فرجة الباب». ص 25. إن أبطال مجموعة «عناق» القصصية، حزانى وغرباء، وغير فاعلين في مجتمعاتهم، إنهم منهكون تعبًا وإحباطًا، وهذا ليس غريبًا على مستوى القصة العربية المعاصرة، فسمة الاغتراب واليأس والإحباط، سمة شبه شمولية تسم كثيرًا من الأعمال العربية المعاصرة، بل يضاف إليها سمة أخرى تتجذر واضحة في كثير من القصص العربية، وهي سمة الجنون، فمن شدة أحزان الأبطال وإخفاقاتهم المعاصرة، تصيبهم حالات يظنها المجتمع حالات جنون، وفي الحقيقة هي ليست جنونًا، بقدر ما تكون رفضًا وتمردًا، غير أن نمطية المجتمعات العربية السكونية الاستسلامية لم تتعلم أن ترى أفرادًا مغايرين لسكونية مجتمعاتهم، ورافضين لها، عندها تتهمهم هذه السكونية النمطية بالجنون. وها هو بطل قصة «حنجرة الليل» يرفع راية يأسه واستسلامه وحزنه قائلًا: «ثمّة ألوان ضبابية لمحها في سقف الغرفة امتزجت مشكّلة لوحة باهتة. أغمض عينية.. رأى أسنانا بيضاء، تصطكّ محدثة صوتًا تحملها وجوه غير واضحة المعالم، حركتها أجساد تتساقط بهدوء، بينما ظلّت بعض الأفواه تفترّ عن شدو يقطر حزنًا ينبعث من حنجرة مسكونة بالحزن». ص 25. إنّ بعض قصص القاص جمعان الكرت، تميل إلى استخدام مستويات الترميز، التي تبدو مغلقة، أو مبهمة، بعيدة الإشارة دلاليًا ومعرفيًا، بحيث تحتاج هذه القصص إلى غير قراءة، حتى تُفَكّ استغلاقاتها المعرفيّة، مع ملاحظة أن مستويات الترميز في القصة السعودية المعاصرة، لا توغل كثيرًا في الرمزية، هذا إذا استثنينا بعض قصص القاصين السعوديين: جارالله الحميّد، وفهد الخليوي، التي تنهل من الترميز، ومستوياته المتعددة. وفي القصة الموسومة ب»اللزوجة»، تتجسّد معاناة رجل نفسية حادة، وتتأزم، نتيجة لخلاف إنساني، واجتماعي، حادين، بينه وبين زوجته، إذ قررت هذه الزوجة المستبدة المتمردة أن تنتقم من زوجها الرومانسي الحالم، بأن تهجره هو وأولاده. تقول القصة: «زوجته تحلف بأغلظ أيمان أنّها ستترك له المنزل، بل ستقذف بأطفاله الثلاثة كشوكة في حلقه، وستهدم البناء الزوجي الذي ظلّ يسقيه بنهر حبّه لسنوات عشر.. وقتها كان يشعر بدوار شديد.. خيّل إليه بأنّه يتأرجح على صفحة البحر.. ضغط على رأسه بكلتا يديه». ص 28. إن اتجاه بطل القصة صوب البحر يشكّل معادلًا موضوعيًا بديلًا من همومه، ومتاعبه مع زوجته المستبدة الطاغية، ففضاء البحر هو فضاء الأمان، والتوق إلى التحرر من ربقة الواقع الاجتماعي والأسري، وعلى الرغم من دلالة فضاء البحر، وكونه ملاذًا وأمانا وطمأنينة في السرد العربي المعاصر، في كثير من دلالاته، إلا أنّ هذا المدى الرحب لم يعط بطل القصة «سالم» أمانًا وطمأنينة، عندها غادر البحر، ولم تغادره همومه. تقول القصة: «أدار وجهه نحو المدينة.. كانت المنازل كئيبة.. زاد من كآبة المكان أصوات إطارات السيارات العابرة.. استنشق هواء رطبًا.. الهواء كان فيه شيء من العفونة». ص 28. غير أنّ فضاء المدينة، لم يكن هو الآخر قادرًا على إدخال الأمان والسلام إلى نفسه المتعبة، أو تخليصه من مرارته وهزيمته النفسية والعائلية، تقول القصة: «الطريق يمتدّ أمامه كسلك أسود.. شعر باختناق.. فكّ أزرار الرقبة.. واصل سيره نحو المدينة.. توقفت سيارته أمام باب حديدي مغلق». ص 29. وليست أزمة البطل هي الوحيدة مع استبداد زوجته، بل هناك أزمة أشدّ منها، وأكثرها إيلاما له، وهي مأساته مع مديره الإداري الأكثر استبدادًا من الزوجة: «نظر إلى الساعة.. تذكّر قرارات المدير القاسية. حتمًا تأخره لمدة ساعتين سيحرمه من أجر يومين كاملين». ص 28. وتنتهي قصة «اللزوجة» بهذه العبارة الختامية: «واصل سيره نحو المدينة.. توقّفت سيارته أمام باب حديدي مغلق». ص 29. ففي المستوى الإشاري قريب الدلالة، من الطبيعي أن تتوقف سيارته أمام باب حديدي مقفل، قد يكون بابًا لمنزله المغلق على أطفاله الذين هجرتهم أمهم، أو قد يكون بابًا لأحد أصدقائه الذين يريد البطل أن يلوذ بهم أملًا في تبديد أحزانه، لكنها في المستوى الإشاري الأكثر ترميزًا وعمقًا قد تشير إلى انغلاق الحياة وكآبتها في المدن المزدحمة التي لا تمنح لسكاكنيها إلّا الاستلاب، ويمكن أن تشير سيميائيًا إلى زيادة اغتراب الأفراد في المدن العربية الكابوسية المغلقة المتزمتة التي ترفض الانفتاح الحضاري والمعرفي صوب الآخر بحسه المتنوع والمتنامي، والمتعدد معرفيًا وثقافيًا. وهذه المدن هي الصورة الندية للمجتمعات المغلقة التي تكره نفسها، وسكّانها، والآخرين الوافدين إليها في الآن نفسه، والثقافات الأخرى التي تتباين مع ثقافتها التقليدية المتزمتة. أمّا في القصة الموسومة ب»الانكسار»، فهي القصة الأكثر حمولات أيديولوجية متعددة، والرافضة لبنية نظام التعليم، وطرقه التقليدية المتخلّفة السائدة في المؤسسات التعليمة العربية المعاصرة، ففي هذه القصة يدين السارد أنظمة الاستبداد المعرفيّة التي تتحكم في إحدى المدارس العربيّة، فبدلا من أن تبثّ هذه المدرسة أخلاق المعرفة والعلم والفضيلة والتسامح، فإنّها تكرّس أنظمة الاستبداد والتخلف، وإلغاء طاقات العقل، وقدراته على التحاور والجدل المعرفي، وتزرع في نفوس الطلاب الخوف من العلم والتعليم. فالمعلم يؤذي طالبه البسيط بكلمات نابية خارجة عن أدب المعرفة وأخلاقها، إذ يشبّهه ب»الحمار، ويصفه بالبلادة». ص 32. ويشعر التلميذ بأسى حزين يجعله نافرًا من معلمه ومدرسته وإدارتها كلها، فيأتي إلى والده شاكيا: «جاء وفمه مليء بالاحتجاج، وما أن توسّط صالون المنزل حتى قذف بالحقيبة.. وأباح بكلمة واحدة: المعلم.. وقعد على الأريكة، وبدأ ينتحب.. ضمّته أمّه، وأحنت رأسها لتستنطقه.. كان على وجهها خريطة من الغضب والحزن». ص 31 32. وفي نهاية القصة نلاحظ أنّ الخطاب السردي يكثّف الرمز، فهذا الانكسار الذي أصاب الأب وابنه لحق أيضًا بالمقررات الدراسيّة التي باتت باهتة لا جدوى منها، وغير قادرة على البناء المعرفي، ودوره في التغيير الايجابي، إذ تنتقل حالة اليأس من فضاء المدرسة بقوانينها إلى فضاء الشارع، وهذا الانتقال يشير في البنية الرمزية إلى الإحباط والفشل والجمود الذي ينتقل، بالعدوى، إلى فضاءات المجتمع بشكل عام، فيتجسد الاستبداد الإداري المدرسي رجلًا هادمًا لكل القيم الجمالية والمعرفية، ويشير إلى ذلك المقطع السردي الختامي الذي تنتهي بها القصة: «وفور وصولي إلى الشارع شاهدت حروفًا ملونة تبكي بحرقة.. تحاول جاهدة التشبث بمشجب خشبي عملاق انتصب وسط الطريق.. كان وقتها يقهقه بنشوة ملأت آذان المارة سخامًا نتنًا، فيما استمرت الحروف تمرّغ أنوفها، وأشدّ ما آلمني نظراته المثخنة بالغطرسة حين يجول ببصره لمشاهدة تلك الحروف الشفافة والجريحة». ص 33. وفي القصة الموسومة ب»جذور» تنهزم أحلام البطل أيضًا، مثله مثل أبطال قصص المجموعة السابقة، فالبطل فارس، من سكان الجزيرة العربية، يزور تونس، ويعشق شابة جميلة، يلتقي بها في فضاء سياحي عالمي، واسمه مقهى «سيدي بوسعيد»، إذ يتعرّف البطل على الشابة الجميلة، ويحلم بها حبيبة وصديقة وزوجة، ينقلها من تونس إلى فضاء الجزيرة. ويؤرّقه هذا الحلم، ويسعى جاهدًا لتحقيقه، وعندما يعلن لها حبّه الشديد، تقدر له إعجابه ورغبته بها، إلا أنّها ترى أنهما ينتميان إلى مكانين متباينين، بعلاقاتهما وأعرافهما، وأن هذ الحبّ، لن يعرف الاستقرار والسكينة والطمأنينة النفسية، وهو معرض، وها هو بطل القصة يصرّح بحبه قائلًا: «قال ونار مستعرة في داخله: آمل ألاّ يكون لقاؤنا حلمًا بهيجًا يغتاله موج عابر: قالت: أرجوك اصمت. قال: لا أستطيع إخفاء لظى حرقتي، فصهد الوجد أدمى قلبي. قالت ثمّة شوق يتهجاه قلبي». ص 48. هذه أهم تيمات اليأس والهزيمة، وفقدان الأمل التي تتمظهر في الخطاب السردي القصصي عند القاص جمعان علي الكرت في مجموعته «عناق»، غير أنّها ليست الوحيدة في هذا الخطاب، بل هناك تيمات أخرى عديدة لا تخلو منها أي قصة من قصص هذه المجموعة الرومانسية الحالمة الشفيفة. ---------------- عناق، قصص قصيرة، جمعان علي الكرت، دار الرواد للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2008م. (*) باحث وقاص وروائي سوري