كل شاعر جيد هو ناقد جيد بالضرورة. ليس ذلك بمعنى انكباب الشاعر على الكتابة النقدية بمفهومها المتعارف عليه، وإن كان ذلك قد حدث أو يحدث لدى هذا الشاعر أو ذاك، ولكن بمعنى وجود رؤية نقدية وجمالية عميقة تكون بمثابة القنديل الذي تتشكل على هدى ضوئه ملامح تجربته. وبطبيعة الحال فإن تلك الرؤية ليست ثابتة ومتكلسة لا تقبل التغيير أو التبديل أو حتى التأرجح ما بين نزعتين وتوجهين قد يبدوان على شيء من التناقض، بل إنها متغيرة ومتحولة إذ تتطور مع تطور ونمو تجربة الشاعر الإبداعية والحياتية وثقافته المعرفية والنقدية. الشاعر العراقي محمود البريكان، الذي جايل رواد الشعر الحديث في العراق ولم يقل عنهم إبداعاً وتجديداً، ولكنه آثر اللجوء إلى الظل ونفر من الأضواء ليس من الضروري كما أسلفنا أن تنعكس ثقافة الشاعر النقدية ووعيه المعرفي في كتاباته، غير أنها حتما ستتضح في منجزه النصي، وقد تتسلل بين الحين والآخر في مقالة عابرة هنا أو حوار صحفي هناك، كما حدث مع الشاعر الكبير محمود درويش، وكما حدث مع شاعر كبير آخر يحمل ذات الاسم، وإن لم يحظ بما حظي به قرينه من شهرة ومجد منقطعي النظير، وهو الشاعر العراقي محمود البريكان، الذي جايل رواد الشعر الحديث في العراق ولم يقل عنهم إبداعاً وتجديداً، ولكنه آثر اللجوء إلى الظل ونفر من الأضواء التي يتهافت عليها أشباه الشعراء. في الجزء الأخير من كتاب (متاهة الفراشة) الذي نشر بعد وفاته وضم عددا من أبرز قصائده، يورد معد الكتاب باسم المرعبي حوارا مع محمود البريكان، يقول إنه ربما كان الحوار الوحيد الذي أجري مع الشاعر. هذا الحوار الفريد والمهم حقاً- بالرغم من قصره النسبي- يحتوي على خلاصة فلسفته الشعرية بامتياز، وهو بمثابة الدليل والمفتاح للولوج إلى تجربته الشعرية، والتعرف عن قرب على أبرز ملامحها، وأهم سماتها المميزة. ولأن مساحة الزاوية لن تسمح لي باستعراض أهم ما ورد في الحوار من رؤى نقدية معمقة، سأكتفي بإيراد اقتباس يرد على الغلاف الخارجي للكتاب، يقول فيه البريكان: «بالإجمال يبدو لي الشعر فناً، لا يقبل التسخير، ولا يحيا مع الحذلقة، ليس الشعر وسيلة لتحقيق أي غرض مباشر، ولا طريقة للتنفيس عن عواطف فجة، ومن ثم فهو لا يخضع للتنظيم الخارجي، وقلما يعكس رغبات الشاعر اليومية، لأن منطقته هي منطقة الذات العميقة».