«أتاك الربيعُ الطَّلْقُ يختال ضاحكاً من الحسنِ حتى كاد أن يتكلما» .. ذلك هو ربيع الشاعر البحتري، وهو ربيع حقيقي ملموس. ثم جاء (ربيع براغ) عام 1968 ذلك الربيع الذي لم يضحك فيه أحد، لأنه وُئِدَ في مهده. وذهبت اقتراحات ألكسندر دوبتشيك الرامية إلى التغيير والإصلاح أدراج الرياح. ولأن للأحداث التاريخية قدرة على منح المسميات دلالات مختلفة فلا بأس من الإصغاء إلى ما يقوله التاريخ، فهو شاهد على كل العصور. قديماً، كانوا يصورون لنا التاريخ على هيئة رجل طاعن في السن، يكسو البياض لحيته الكثة وشاربه، وبقايا شعر رأسه الأصلع. ولو نطق ذلك العجوز، هذه الأيام، أتفق مع الروائي جورج أرويل الذي يقول: «تصدر كل صيحات الحرب والدعاية لها عن أولئك الذين لا يحاربون»! نعم، فهم مشغولون بالخطب والتصريحات وحضور المآدب تاركين الباقي لأولئك الذين يملأون الجهات هياجاً وفوضى، ولا يميّزون بين ربيع وخريف. والفوضى تتسكع في شوارع وساحات العالم العربي بحثاً عن «الربيع» لقال: التاريخ الحقيقي، يا أصدقائي، هو تاريخ الأفكار. والكلام هنا على الأفكار التي قادت الإنسان من الظلمات إلى نور المعرفة، ومن التوحش والهمجية إلى التمدن. الأفكار التي صنعت الوعي الذي غيَّر مسار التاريخ. وفي غياب مثل تلك الأفكار يتعذر التمييز بين الربيع والخريف، وبين الماضي والمستقبل. لذلك قد ترون جموعاً غفيرة بلا بوصلة، تحسب الخريف ربيعاً، والماضي مستقبلاً. فالعاطفة عمياء يسهل قيادها، أما العقل الراجح فلا يمكن استعباده. يقولون: إن التاريخ يعيد نفسه، فلا تصدقوهم. ذلك أن ضعاف الذاكرة هم الذين يطلبون مني العودة من حين إلى آخر. لهذا أتفق مع من يقول: إن أسعد أيام البشر هي تلك الصفحات البيضاء في التاريخ. أعرف أن سيرتي ليست صفحات بيضاء دائماً، ففيها الأبيض والأسود. لكن الذين لم يتصفحوا تلك السيرة، ولم يتعلموا منها، وقعوا في الأخطاء التي وقع فيها أسلافهم. وما التاريخ، كما يقال، سوى الحصيلة الإجمالية لأشياء كان من الممكن تفاديها. هنالك في هذه السيرة جانبان أحدهما يمثل الحكمة، والآخر يمثل الحماقة، والذين ارتكبوا الأخطاء نفسها لم يتأملوا الحكمة ليسيروا على ضوئها، ولا الحماقة ليتجنبوا ارتكابها. ويتابع العجوز تعليقه على نتائج تلك الأحداث قائلا: أتفق مع الروائي جورج أرويل الذي يقول: «تصدر كل صيحات الحرب والدعاية لها عن أولئك الذين لا يحاربون»! نعم، فهم مشغولون بالخطب والتصريحات وحضور المآدب تاركين الباقي لأولئك الذين يملأون الجهات هياجاً وفوضى، ولا يميزون بين ربيع وخريف. وحين تهدأ العاصفة يأتي بعضهم ليقطف ثمار ذلك الهياج، فلا يستحوذ على فصل الربيع وحده، بل يصادر كل فصول السنة، ثم يغرد منفرداً، فكأن الشمس لا تشرق صباحاً إلا لتستمع إلى تغريده، وذلك خلافاً للحكمة القائلة: «إن عصفوراً واحداً لا يصنع ربيعاً»! لقد أصاب الشاعر طاغور كبد الحقيقة حين قال: «من يضع مصباحه خلف ظهره لا يرى إلا ظله»! وإذا كان الكتاب يُقرأ من عنوانه، كما يقال، فهل يمكن التعويل على مشروع مؤسس على تفكير أحادي الجانب، لا يرى إلا ما يريد أن يراه؟ وهل يمكن الاطمئنان إلى تغيير يأتي من فوهة بندقية عمياء، أو زجاجة حارقة خرقاء؟ وهل يمكن العبور إلى المستقبل من بوابة الاعتداء على التراث الثقافي والآثار والمعالم الحضارية؟ وبعد، لم أجد، يا أصدقائي، ما أختتم به هذه التداعيات أفضلَ من قول أبي الطيب المتنبي: «وما انتفاعُ أخِي الدُّنيا بناظِرِه إذا استوتْ عنده الأنوارُ والظُّلَمُ» ! [email protected]