من المصادفات المفجعة التي تلقيتها قبل أيام، خبر وفاة الكاتب والشاعر المبدع إبراهيم الغدير أحد كتاب «اليوم» في السبعينات، والمعروف بخفة دمه وكتاباته الساخرة. التقيت به لأول مرة فى مكاتب جريدة «اليوم» في السبعينات، كنا نعمل معاً برفقة مجموعة من فريق العمل أتذكر منهم، مع حفظ الألقاب، خليل الفزيع الذي كان رئيساً للتحرير ومحمد الصويغ وعتيق الخماس وعلى الدميني والراحل عبد العزيز مشري، وفالح الصغير والظريف اللطيف عبدالله الغشري وصديق جمال الليل وعدداً من الاخوة العرب وكان الفقيد إبراهيم الغدير محط أنظار الجميع بسبب ظرفه وخفة دمه ودماثة أخلاقه، واعتباره النجم المتألق دائماً، سواء من خلال كتاباته الساخرة فى عموده اليومي - في الطريق - و- باختصار- فيما بعد، أو بما كان يحظى به من شعبية من قبل قرائه الذين يتابعونه بشغف من خلال أسلوبه الساخر والمرح، خاصة في ترجمته وتجسيده لجوانب من همومهم ومعاناتهم وقضاياهم اليومية مع سلبيات قطاعات الخدمات، أو بما كان يحظى به من حب يحيطه من قبل جميع الزملاء، حيث كانت شخصيته الكارزمية المرحة تشدّ الجميع عبر نكاته وضحكاته، والتي كانت تضفي على المكان أجواء مبهجة ومفرحة، كثيراً ما كانت بلسماً لتخفيف بعض معاناة الزملاء في الانهماك بروتين العمل اليومي. كان السيناريو اليومي لبرنامج ابراهيم الغدير حين يهمّ بكتابه عموده، هو أن يبدأ مستلهماً بالخروج من شخصيته العامة ليدخل في شخصية أخرى، مستسلماً للصمت والسرحان، ومواصلة التدخين بشراهة، ثم الاستعانة بطلب تحضير وجبة (ساندويتش مع زجاجة كولا) وغالباً ما تعكس كتاباته جوانب متنوّعة وغامضة من شخصيته الساخرة والمرحة والضاحكة والحزينة والمتمرّدة أحياناً، على خلفيات بعض المتناقضات في مجتمعه، والجوانب الحزينة أحياناً أخرى بهموم وعذابات الحياة ومعاناة الألم والشعور بالحرمان وقلة ذات اليد، فكانت شخصيته دون مبالغة تشكّل طاقة متوقدة وكتلة متدفقة من المشاعر والأحاسيس الفيّاضة، لمخزون حافل بكل تلك الإيجابيات والمتناقضات في آن، كثيراً ما كان يترجمها أحياناً لتفيض بنصّ الكتابة الشعرية وأخرى عبر الكتابة النثرية، والتي يعكس من خلالها أوجه حياة البحر و(اليامال) ودارين التي عاش وترعرع فيها، مروراً بتعاطفه وتآلفه مع قضايا وهموم الناس.
التقيت به صدفة بعد سنوات طويلة في لقاء عابر، وكم هالني منظره الشخصي الذي بقي محافظاً عليه منذ ذلك الوقت، وطريقته المتميّزة في لبس الغترة والعقال والتي لم تتغيّر ولم تتبدل، وشعرت حينها وكأني قد فارقته بالأمس، فرغم آثار تقدّم العمر وبصمات الزمن التي حفرت على أخاديده، ما زالت شخصيته المرحة تتمتع بحضورها وتحتفظ بوهجها المتألق، وبعد أن تعاتبنا وضحكنا لمست منه إحساسه وشعوره بالإحباط، بسبب قلة الوفاء والتنكر والجحود لماضيه الجميل، من قبل أصحابه وزملائه ومن عمل معهم، بعد أن تخلوا عنه ونسوه. وبعد.. أخي وعزيزي إبراهيم وأنا أودّعك الوداع الأخير إلى يوم ألقاك.. أستسمحك وأطلب منك العفو والمعذرة، والسماح على التقصير، وحين أتذكّرك اليوم، تحضرني كلماتك الضاحكة وقفشاتك الساخرة، وخِصالك الحميدة، التي لن ننساها برغم ألم الفراق، ولكن ذلك هو قضاء الله وقدره، فكلنا إلى زوال وفناء، فالموت حق علينا جميعاً.