إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا يا شيخنا على فراقك لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.. إنا لله وإنا إليه راجعون..غيب الموت عنا أحد رجال مملكتنا الحبيبة المميزين مساء يوم الأثنين3/8/1432ه الموافق 4/7/2011م عن عمر يناهز ال 77 عاما، خدم بلده و المكفوفين وذوي الإعاقة لأربعة عقود محليا وإقليميا وعالميا بكل إخلاص وتفانٍ. نشأته وتعليمه: وُلد الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن الغانم في عام 1353ه (1934م) في جلاجل بسدير كَفّ بَصره وعُمرهُ ست سنوات. وذكر لي رحمه الله كيف أن الكفيف في تلك الفترة تقريبا يُعزَّىٰ والداه و يَعطِف عليه الجميع الكبير والصغير لأنه في نظرهم عاجز لا مستقبل له، وهذا ما شحذ همته وجعله ينهل من العلم بكل اقتدار وبلا حدود. ومع الوقت تحول هذا العطف إلى نبوغ وإعجاب به. حيث عَلَا شأنه وبَرزَ نجمه، فجالس الملوك ورؤساء الدول والوزراء والعلماء والمسئولين ووصل به الأمر ليكون خطيبا وممثلا ليس فقط لبلده بل لمكفوفي العالم على منصة الأممالمتحدة لإنشاء العقد الدولي للمعاقين والذي امتد لمدة عشر سنوات مابين 1403-1413ه (1982-1992م). تلقى تعليمه الأول بالكتاتيب في جلاجل على يد الشيخ/ فوزان القديري رحمه الله. وفي عام 1363ه (1944م) انتقل إلى مدينة الرياض و عمره عشر سنوات لإكمال تعليمه ، حيث درس العلوم الشرعية و الاجتماعية على يد كل من: فضيلة الشيخ/ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ وفضيلة الشيخ/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية - رحمهما الله وأسكنهما جنات النعيم . التحق بالمعهد العلمي عام 1372ه (1953م) إلى أن تخرج من كلية الشريعة عام 1380ه (1960م) والتي أصبحت الآن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. طالبا ومعلما: سعى بعد ذلك بجهوده الشخصية لإقناع المسؤولين بتلك الفترة في إدارة المعاهد العلمية والكليات بأهمية تدريس طريقة الخط النافر (برايل) للمكفوفين و التي تعلمها على يد الأستاذ أحمد الباحسين رحمه الله عام 1377ه (1958م)، وللتاريخ (كما ذكر لي الشيخ رحمه الله) يعتبر أحمد الباحسين أول سعودي أدخل طريقة البرايل للمملكة و الشيخ عبدالله كان مع أربعة مكفوفين من أوائل الذين تعلموها وعلموها لاحقا للممكفوفين، ثم تكرمت عليه الإدارة عام 1377ه (1958م) بإعارة مقر معهد إمام الدعوة في أثناء الإجازة الصيفية لتعليم المكفوفين طريقة برايل. فتعلم حينذاك حوالي 15 كفيفا في مدة لا تتجاوز الثلاثة أشهر ليكونوا لاحقا النواة التي علمت المكفوفين الكتابة والقراءة بطريقة برايل. كان أول كفيف سعودي وعربي ممثلاً لحكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -رحمه الله وطيب ثراه- في الأممالمتحدة) في عام 1378ه (1959م) وافقت وزارة المعارف (الآن وزارة التربية والتعليم) على فتح فصول مسائية في مدرسة جبرة الابتدائية بالرياض لتعليم المكفوفين تلك الطريقة بإشراف الشيخ عبدالله -رحمه الله، وخلال هذه الفترة تفضل الملك سعود - رحمه الله وطيب ثراه- بزيارة تلك الفصول ، حيث تبرع الملك بمقر في حي الظهيرة بمدينة الرياض ومطابع خاصة لطباعة برايل، وكان لهذه الزيارة صدى إعلاميا كبيرا على مستوى المملكة، وبهذا كانت جهوده الفردية المدعومة من قبل الجهات التعليمية هي البداية الحقيقية لوضع أسس التربية الخاصة بالمملكة العربية السعودية. إداريا: في عام 1380ه (1960م) أمر وزير المعارف حينذاك خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله وأسكنه جنات النعيم- بافتتاح أول معهد رسمي متخصص لتعليم المكفوفين بالمملكة وسمي «معهد النور بالرياض»، الذي كان يتولى أيضا الإشراف على إعداد برامج التربية الخاصة بإدارة الشيخ عبدالله رحمه الله. في عام 1382ه (1962م) تم تأسيس إدارة التعليم الخاص بوزارة المعارف، حيث عين الشيخ عبدالله مديرا لها بغرض التوسع وتقديم البرامج والخدمات التعليمية والمهنية والاجتماعية لثلاث فئات هم: المكفوفون والصم والمتخلفون عقليا . إقليميا: انتخب رئيسا للجنة الشرق الأوسط في الجمعية العمومية للمجلس العالمي لرعاية المكفوفين في الهند عام 1389ه (1969م) لبروز دور المملكة في الاهتمام برعاية المكفوفين في المجتمع وتأهيلهم. وفي عام 1390ه (1970م) عقدت هذه اللجنة أول اجتماع لها في الرياض حيث درست أوضاع المكفوفين في منطقة الشرق الأوسط واتخذت إحدى وسيلتين توصية من ضمنها إنشاء مكتب إقليمي للجنة الشرق الأوسط بالرياض ورفعت هذه التوصيات إلى الملك فيصل -رحمه الله وطيب الله ثراه - الذي أمر بتنفيذها على الفور. وفي عام 1391ه (1971م) اجتمعت هذه اللجنة مرة أخرى وأقرت ميزانية للمكتب الإقليمي تساهم فيها دول الخليج على النحو التالي: السعودية 45%، الكويت 15% ، الإمارات 25% ، قطر 10% ، البحرين 5%. وقام المكتب بالعديد من الخدمات التي يصعب حصرها ومن ضمنها إنشاء مطابع الملك فهد لطباعة القرآن الكريم بطريقة برايل (وهذا المشروع تبناه الملك فهد طيب ثراه قبل إنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة المشهورة لطباعة القرآن الكريم)، وإنشاء مركز الحاسب الآلي والذي تم فيه طباعة القرآن الكريم لأول مرة بطريقة برايل على الحاسب الآلي، وافتتاح معهد النور في البحرين، ومركز تدريب الكفيفات بالأردن. ومع الوقت قام المكتب الإقليمي بلفت أنظار جميع حكومات المنطقة بأهمية تطوير تعليم المكفوفين حتى يعتمدوا على أنفسهم ولا يصبحوا عالة على المجتمع،وفي عام 1392ه (1972م) تم تطوير إدارة التعليم الخاص لتصبح المديرية العامة لبرامج التعليم الخاص أسوة بالإدارات العامة في التعليم العام حيث عين الشيخ مديرا عاما فيها وانبثقت من تلك المديرية ثلاث إدارات هي: إدارة تعليم المكفوفين، وإدارة تعليم الصم، وإدارة التربية الفكرية. دوره في تأسيس مستشفى الملك خالد للعيون: ذكر لي -رحمه الله- عندما أنشىء المكتب الإقليمي بالشرق الأوسط لم يكن بالمملكة مستشفيات للعيون ولا أطباء متخصصين بهذا المجال سوى طبيبين فقط ،مع ملاحظة تفشي أمراض العيون المسببة للعمى و ضعف البصر فأحس الشيخ بأن عليه أن يساهم و يبادر في إيجاد الحلول المناسبة لأسباب العمى في بلده ، و خصوصا لاطلاعه الدائم أثناء حضوره للمؤتمرات الدولية على المناقشات في مسببات أمراض العمى على مستوى العالم، وفي أحد الأيام استأذن الملك خالد بن عبدالعزيز -رحمه الله وطيب ثراه- في مجلسه وطرح على جلالته الفكرة التي أيدها ورحب بها وأمر بتنفيذها. فانطلق بلا كلل أو ملل، واستعان ببعض أصدقائه في الخارج من ذوي الخبرة بأمراض العيون، واتصل بالدكتور الفاضل حسين الجزائري من وزارة الصحة في تلك الفترة و الذي يذكر دوره المهم في إنجاح هذه الدراسة، وقسما مناطق الدراسة إلى أربع مناطق رئيسة على مستوى المملكة ، ثم أمر الملك خالد - طيب الله ثراه- وتلمسه لحاجة المواطن الصحية في تلك الفترة بأن يبنى مستشفى بدلا من مستوصف صغير و على حسابه الخاص. وأصبح هذا المستشفى بفضل من الله عز وجل أفضل مستشفى للعيون بالشرق الأوسط ومعلما طبيا بارزا منذ إنشائه إلى الآن، ويضم العديد من الكفاءات الطبية العالمية والسعودية المميزة. أول سعودي عربي (آسيوي) رئيس للاتحاد العالمي: في عام 1405ه (1984م) أصبح أول كفيف سعودي عربي (آسيوي) رئيسا للاتحاد العالمي للمكفوفين لمدة أربع سنوات من عام 1405 إلى 1409ه (1984-1988م). تقديرا من مكفوفي العالم لجهود المملكة المميزة ممثلة بالشيخ عبدالله في إنشاء هذا الاتحاد العالمي (كما حدثني الشيخ) حيث كانت تتنازع هيئتان دوليتان على تمثيل مكفوفي العالم مما خلق في المحصلة الازدواجية و ضياع لجهود الدول وكانت الأممالمتحدة دائما ما تطلب وتحث كلا الهيئتين للاجتماع وتوحدهما في كيان دولي واحد، لكن كل هذه المطالبات ذهبت أدراج الرياح. (ويكمل الشيخ رحمه الله حديثه قائلا ) بأنه رفع لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمه الله بالموضوع مع توصيات للحل تتبناه المملكة. وبالفعل استحسن خادم الحرمين الشريفين -طيب الله ثراه- هذا الحل و أمر الشيخ عبدالله باتخاذ ما يلزم لفك عقدة هذا الإشكال الدولي على أرض المملكة بدعوة كلا الهيئتين ليتم معهما التباحث. جالس الملوك ورؤساء الدول والوزراء والعلماء والمسئولين ووصل به الأمر ليكون خطيبا وممثلا ليس فقط لبلده بل لمكفوفي العالم على منصة الأممالمتحدة لإنشاء العقد الدولي للمعاقين وتم ما أمر به خادم الحرمين الشريفين طيب الله ثراه حيث افتتح صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله ورعاه -المؤتمر نيابة عن خادم الحرمين في الرياض عام 1405ه (1984م) وتكريما لجهود المملكة أجمع أغلب مندوبي العالم الممثلين بتلك الفترة على انتخاب الشيخ عبدالله لرئاسة الاتحاد الجديد لمدة أربع سنوات، والذي أصبح يضم الآن ما يقرب من 290 مليون كفيف ومن فئة ضعاف البصر في 190 دولة عضوا بالاتحاد. أثناء رئاسته للاتحاد قام بزيارة معظم الحكومات في مختلف القارات وقابل رؤساءها وشرح لهم أهمية تعليم المكفوفين ومد يد العون لكثير من الجمعيات التي تقوم برعاية المكفوفين لاسيما في قارة آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية كما ساهم بإنشاء الاتحاد الإفريقي واتحاد أمريكا اللاتينية وحل مشاكل الاتحادات السابقة وتم تزويدها بالمعونة المادية والإمكانيات الفنية. دوره في إنشاء العقد الدولي للمعوقين في الأممالمتحدة: كان أول كفيف سعودي و عربي ممثلاً لحكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -رحمه الله وطيب ثراه- في الأممالمتحدة حيث شارك في اجتماعاتها لإنشاء العقد الدولي للمعوقين على المستوى الدولي و الإقليمي والذي امتد لمدة عشر سنوات مابين 1403-1413ه (1982-1992م). والشيخ بالرغم من أنه كفيف البصر لكنه كان -رحمه الله- ذا بصيرة مميزة، فطناً متقد الذهن ،دمث الخلق ظريف المعشر لا تمل من مجالسته، يحبه الصغير و الكبير، سريع التعلم و ما يتعلمه الكفيف في أيام كان لا يستغرق معه إلا ساعات. وعندما سألته: هل استعملت العصا يوما لتتلمس بها طريقك كمعظم كفيفي العالم قال لي بحزم : لا.. فأنا أعتمد على الله أولا ثم على يدي و سمعي ثم بعد ذلك على ذاكرتي . لله درك يا أبا مساعد فبدلا من أن يعطَف ويَحنو الناس عليك عَلَوْتَ مركزا و شأنا وأصبحت تساعد الجميع ولا تبخل بالخير على أحد أبدا سواء للقريب أو البعيد. مناشدة كريمة لأمير الوفاء الأمير سلمان -حفظه الله: أوافق أخي الفاضل الأستاذ محمد الوعيل رئيس تحرير جريدة «اليوم» في ما ذهب إليه بمقاله في مناشدته لأمير الوفاء صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله - في إطلاق اسم الشيخ عبدالله بن محمد الغانم على أحد شوارع مدينة الرياض أو كما اقترح أحد الإخوة لاحقا بإطلاق اسمه أيضا على أحد المنشآت التعليمية للمكفوفين ليبقى اسم هذا «الكفيف السعودي العالمي» مخلدا في ذاكرة مدينتنا الحبيبة مع أسماء المخلصين و المجتهدين من أبناء وطننا الحبيب. وفي الختام.. اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه و أكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.. ولا نقول لك وداعا يا جد أبنائي ولكن إلى لقاء قريب بإذن الله تعالى في الجنة على حوض الحبيب المصطفى نشرب من يده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبدا.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.