في الحلقتين السابقتين أكد المشاركون من الفنانين التشكيليين في هذا المحور على اهمية المكان في الابداع التشكيلي وفي هذه الحلقة نواصل الكشف عن سر عبقرية المكان مع عدد من التشكيليين نرصد لآرائهم هنا: عبقرية المكان الفنان والناقد التشكيلي المصري طلعت عبدالعزيز يقول: "إن الحديث عن المكان وأثره في ابداع الفنان.. حديث ذو شجون.. ويضيف: لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نفك التلاحم العميق والتزاوج الوثيق بين الجغرافية والتاريخ.. فجغرافية المكان هي التي تصنع تاريخ الفنان وتظل عالقة في ذاكرته تنطلق مع كل عمل ابداعي من وجدانه وعقله الباطن وفكره المستنير". وأضاف: "لقد أهداني صديقي الفنان والناقد الأردني الكبير محمد أبو زريق عندما تزاملنا في الملتقى الدولي الرابع بشرم الشيخ كتابه الجميل «المكان في الفن».. يقول في مقدمته: « إن أهمية المكان في العمل التشكيلي هو غاية في حد ذاته، هو فضاء العمل الذي يصيغ العلاقة بين العناصر المختلفة، وهو الحيز الذي تتوحد فيه هذه العلاقة بشكل جدلي خلاق، سواء في ظهوره أو خفائه بل إن إخفاء المكان ربما كان له أثر أقوى في الأعمال الفنية الحديثة». إذا الفنان هو ابن زمانه ومكانه حيثما تولى ابدع وتغنى بالطبيعة والتراث.. لكنه مهما سافر وتنقل يظل حبيسا لبيئتة الحاضنة وهذا هو سر العمل الفني المبدع والمتميز وطريقه أيضا لتبوء مكانة عالمية. لقد سجل الفنان المصري بصمات فنية واضحة تجلت في أربع مراحل هامة هي: الفرعونية والقبطية والإسلامية ثم الفن المصري الحديث والمعاصر الذي أتي معبراً عن حالة مصرية خالصة في الزمان والمكان وسجل حضارة كل حقبة من تاريخه بكل تميز واقتدار بهرت العالم بها. ويتابع الفنان والناقد التشكيلي طلعت عبدالعزيز حديثه ويقول: "عبقرية المكان هي التي دفعت «ديكان» و«دي لاكروا» و«روبرتوس» وعمالقة المستشرقين الآخرين في الفن التشكيلي في التغني بجمال الشرق فرسموا اعظم لوحاتهم الخالدة إلى الآن، واتضحت عبقرية المكان في أعمال المعماري الفرنسي الرائع «كوربوزيه» عندما شيد التطور المعماري الفرنسي والغربي في معظم لوحاته.. ومؤسس الوحشية «هنري ماتيس» المنبهر بعالم المرأة والطبيعة متأثرا بجمال بالشرق وسحره تجلت في لوحته الشهيرة (نساء الجزائر)، وكان الشرق مصدرا مهما لمعظم لوحاته، حيث استوطن هو ورفيقه «جوجان» في كل من الجزائر والمغرب واستفادا من الفن الإسلامي ومنمنماته آنذاك ليهدي للعالم أروع أعماله بالتماهي مع الفن العربي الأصيل. أما في الأعمال التي قدمتها مؤخرا عن الشعبيات فلم تكن سوى استدعاء للذاكرة بحكم نشأتي في ريف صعيد مصر سواء في المزمار الصعيدي أو الربابة والبيوت الشعبية. ويجب أن أشيد هنا بكل فخر بتلك المسابقة الفنية التي ترعاها الجمعية السعودية للفنانين التشكيليين عن الآثار وكيفية المحافظة على التراث والتي توفر جوا من الترابط المكاني والزماني بين الفنان السعودي وتاريخه وما اعظمه من تاريخ. لقد أهداني صديقي الفنان والناقد الأردني الكبير محمد أبو زريق عندما تزاملنا في الملتقى الدولي الرابع بشرم الشيخ كتابه الجميل «المكان في الفن» اتصال وتفاعل وأكدت الفنانة والناقدة التشكيلية السعودية فوزية الصاعدى أن الفنان والمكان في اتصال وتفاعل مستمر قائلة: "يمتلك المكان قيمة تاريخية، ومعاني فكرية ونفسية بالإضافة لاعتباره الحيز المادي الذي يعيش فيه الانسان بكل ما فيه من تفاصيل وملامح وعادات وتقاليد، والحاضن الطبيعي لمشاهد وأحداث مشحونة برموز بصرية تحمل هوية محلية وتشكل ملامح لشخصية الفنان لكونه كائنا (زمكاني) يعيش في المكان والزمان ولا يمكن أن يعيش خارج إطارهما، ومن هذا المنطلق نستطيع القول إن الفنان والمكان في اتصال وتفاعل مستمر كمرتكز للانتماء وليس المكان بالشيء المصمت، فهو زاخر بالحركة مليء بالحياة والأحداث (كونه ملتحماً بحياة الناس)، والتجربة الانسانية مجموعة أمكنة لانتقال الإنسان من مكان لآخر. المكان بمستواه المادي: كل مكان طاقة مشحونة بالجمال وفضاء متشابك تتداخل في نسيجه إيقاعاته الجمالية، فيحتاج للمتلقي الجيد والفنان المبدع الذي يتفاعل معه ويحتوي هذه البنائية الرمزية بحسية واعية ويتحاور مع عناصره المادية ليكسبه ابعادا فنية، وقد يتجاوز المكان صورته الفنية في العمل الفني إلى صورة رمزية مجازية وفضاءات تنطلق من مشاهد استوطنت في الذاكرة إلى عوالم لونية تجمع تفاصيله البصرية والحسية، وتحمل معاناة الفنان فيظهر المكان مختزنا للمشاعر والأحاسيس.. وللمكان في العمل الفني روح جميلة نراه كمرجعية تاريخية مستمرة تحتفظ بعبق الذكريات بأدق تفاصيلها ومعانيها الداخلية. المكان بمستواه الحسي: وعلى المستوى الحسي يتغلغل المكان في متاهات الروح الانسانية مقترنا بالحس والوجدان ليصبح جزءا من الكيان الانساني للفنان، لذلك يستدعيه في أعماله الفنية ويزداد الحنين للمكان كلما اغترب الفنان وابتعد عن المكان الذي عاش فيه، فبين الشعور واللا شعور نتحسس في خطابه التشكيلي تسرب اللون ليكشف لنا جزءاً من سيرته الحياتية.