بوسع المتابع والمهتم بالكتابة الأدبية بكافة أشكالها وأنماطها وأجناسها المختلفة أن يميّز بين موقفين مختلفين ومتعارضين وربما يقعان على طرفي نقيض لجهة المنظور الذي ينظر من خلاله إلى الأدب إجمالاً. الموقف الأول الذي قد يوصف عادة بالمثالية أو الطوباوية - بحسب وجهة نظر المتلقي وموقفه منه - ينظر إلى الأدب باعتباره حاملاً لرسالة سامية ولهدف أعلى من مجرد كونه تهويماً جماليا في عالم الخيال، الأدب ما زال يتمتع بالقوة ويمتلك القدرة على التأثير في المجتمعات التي لا تزال تعاني من سلطات البطش والعسف والاستبداد. وأن له مغزى وحمولة أخلاقية يحملها على عاتقه تجاه المجتمع والعالم. أما الموقف الآخر فهو الذي لا ينفي الدور الأخلاقي والرسالي عن الأدب بشكل قاطع ولكنه يجعل من ذلك أمراً هامشياً قبالة جماليات الأدب ذاته، ويدخل في هذا الإطار ما كان يعرف بمدرسة الفن للفن Art for art›s sake. فوفق هذه الرؤية وانطلاقاً منها ليس على الرواية مثلاً أن تحمل رسالة اجتماعية أو سياسية ما، وليس على القصيدة أن تحمل بعداً نضالياً أو تصحيحياً أو احتجاجياً ما، بل ويذهب البعض إلى القول إنه ليس على القصيدة أن تحمل معنى ما بل أن تكون فحسب، وفق ما يقوله الشاعر الأمريكي أرشيبالد ماكليش: « A poem should not mean but be». ترى، كفة أي من الرؤيتين هي الراجحة الآن؟ يبدو لي مما هو ظاهر ومن معطيات الواقع الذي نعيشه أن كفة الرؤية الثانية هي الراجحة، فلم يعد للأدب ذلك الدور والتأثير اللذان كان يتمتع بهما من قبل، ولا أدل على ذلك من توصيف الروائي الفائز بنوبل الأخيرة، ماريو بارغاس يوسا، للأدب من كونه قد أصبح مجرد وسيلة تسلية وتزجية للوقت، حتى صار الكاتب الملتزم مثله يشعر بأنه «ديناصور يرتدي بنطالاً وتحيط به أجهزة الكمبيوتر في كل مكان». غير أن يوسا ذاته يؤكد على أن الأدب ما زال يتمتع بالقوة ويمتلك القدرة على التأثير في المجتمعات التي لا تزال تعاني من سلطات البطش والعسف والاستبداد، حيث الأدب والفكر والكتابة عموماً تشكّل مصدراً يهدد بخلخلة وزعزعة النظم المستبدة والفاسدة. لكن.. وحتى على افتراض اقتصار الأدب على الوظيفة الجمالية البحتة فإن في ذلك ما يكفي من سمو الغاية ونبل الهدف، أو هذا ما أحسب أنه الصواب. [email protected]