يروى ان (واصل بن عطاء) أقبل في رفقة فأحس (الخوارج) فقال (واصل) لأهل الرفقة: ان هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني واياهم وكانوا قد اشرفوا على العطب فقالوا شأنك فخرج اليهم فقالوا: ما انت واصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده فقالوا: اجرناك قال: فعلمونا فجعلوا يعلمونه احكامهم وجعل يقول: قد قبلت انا ومن معي قال: فامضوا مصاحبين فانكم اخواننا قال: ليس ذلك لكم .. قال الله تبارك وتعالى: (وان احد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه) فأبلغونا مأمننا فنظر بعضهم الى بعض ثم قالوا: ذلك لكم فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن. جاء ذلك في كتاب الكامل في اللغة والادب للمبرد. والسؤال هنا لماذا يتظاهر احد التابعين الكبار بأنه مشرك حتى يسلم من القتل؟ تسليط الانوار الكاشفة ركزت البحوث المعاصرة في العلاقة بين الدين والتعصب على الديانة المسيحية فقط، ذلك لان اغلب الابحاث قد اجريت في امريكا الشمالية وبعضها او لنقل القليل منها شمل اليهود لكنه من النادر ان نجد ابحاثا منهجية اجريت على التعصب والعلاقة بالمعتقدات الاخرى كالبوذية والهندوسية والاسلام رغم انتشار هذه الديانات؟ وهذا الكلام يقودنا الى عدم امكانية اجراء تعميم امبيريقي عن العلاقة بين الدين والتعصب لأن تطبيقاته المشهورة تنطبق بشكل كبير على الديانة المسيحية، وعند البحث عن ادبيات هذا المجال نلاحظ ان اغلب النتائج حاولت قياس ما اذا كان اعضاء الكنيسة اكثر تعصبا من غير المنتمين لها؟ وهل اعضاء الكنيسة النشطون دينيا هم اقل تعصبا بالمقارنة بغير النشيطين دينيا او متوسطي النشاط في الكنيسة؟ والحقيقة ان الشيء المهم في هذه الوقفة هو الالتفات الى حالة الفقر في الدراسات الخاصة بواقعنا الثقافي والاجتماعي وطبيعة الخطاب الديني السائد والبحث عن امكانية تسليط الانوار الكاشفة على الذات وان الاسئلة السابقة التي تدور حول درجة التدين ومستوى التعصب تليق ان نطرحها لكي تلامس واقعنا عوضا عن نقد الاخر الاجنبي، فالجميع يصاب بمرض اللعثمة وربما الخرس اذا كان الحديث له علاقة بالمساواة والحقوق وعدم التمييز بين الطوائف والمذاهب في الاوطان بحيث يتم استبداله بعبارات النقد والتهييج للناس ضد الاخر في عملية ترانزيت لأزمة التعصب والتفيئة الاجتماعية وفتاوى التكفير التي نعايش نتائجها السلبية ميدانيا من الخليج الى المحيط. التعصب ونظرية التعلم الاجتماعي يقول الرئيس الامريكي السابق بيل كلينتون في (مذكراته) انه تعلم الوقوف ضد التمييز العنصري وهو طفل في البقالة التي كان يملكها جده في بلدة (هوب) في ولاية اركتساو. حيث كان الكثير من زبائن البقالة فقراء من السود الذين كانوا يسكنون في المقابر او وراء البقالة! وكان جده يقول ان لهم الحق في طرقات معبدة مثل سواهم لانهم يدفعون الضرائب مثل سواهم لكن حفيد البقال اخذ فرصته في تولي المناصب ليصبح مدعيا عاما ثم حاكما للولاية فزعيما لوطنه، ولسان الحال يقول: في بلاد الجدارات يصل المواطن العادي الى حيث يحلم. والحقيقة ان العدل والانصاف وتحري الدقة في الحكم من شأن المسلم سواء كنا نحترم بيل كلينتون ام لا فقد أمرنا الشارع المقدس بأن نكون عادلين في احكامنا ولو مع الذين نكرههم، قال سبحانه وتعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على الا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى) المائدة الاية 8. بمعنى: لا يحملنكم بغضكم قوما على عدم العدل معهم. ولعل بيل كلينتون قد نسي ان يذكر ان والد ريتشارد نيكسون كان بقالا هو الاخر في الريف الامريكي وكذلك والد مارغريت تاتشر كان بقالا في فنشلي شمال لندن. وبهذا يمكننا ان نؤسس على تلك المداخلة علاقة لفهم عملية التعصب حيث تنشأ الاتجاهات التعصبية في العادة من خلال خبرات التعلم الخاصة التي يمر بها الطفل. فالتعصب يعد بمثابة (معيار) في ثقافة الشخص يتم اكتسابه بواسطة عملية التنشئة الاجتماعية فيكتسب الافراد اتجاهات التعصبية مثلما يكتسبون الاتجاهات السلوكية الاخرى. وقد حددت نظرية التعلم الاجتماعي (social learning theory) ثلاث قنوات اساسية لعملية التنشئة الاجتماعية هي الولدان والمدرسون والاصدقاء، وكذلك الدور الهام لوسائل الاعلام الجماهيرية mass- media. عنزة ولو طارت يذهب كثير من ادبيات وبحوث التعصب الى ان هناك مجموعة من السمات الدالة على وجود (قابلية للتعصب) عند الاشخاص ومن اهمها الميل الى (الانغلاق الفكري) او ما يسميه روكيش rokeach (الشخصية الدوغماتية) وهي الشخصية التي تقاوم تغيير الاعتقاد في ضوء المعلومات الجديدة وتلجأ الى القوة لتبرير صحة الاعتقادات القائمة لديها. كما افترض (البرت) خمس درجات للسلوك التعصبي: اولا (الانغلاق الفكري) ثانيا (التجنب) ثالثا (منع بعض الحقوق لمن يستحقها) رابعا (العدوان الفعلي physical attack) خامسا (القتل extermination). ويتفق الاثنان (روكيش) و(البرت) على الخاصية الاولى (الانغلاق الفكري) كمرحلة هامة للشخصية المتعصبة والذي يتقاطع بدوره مع المثل الشعبي الذي يقول (عنزة ولو طارت) ومعروف ان الامثال الشعبية تختصر تجربة اجتماعية ذات دلالات ليست بالضرورة علمية لكنها مفيدة؟ وقصة هذا المثل الشعبي تحكي ان اثنين من الاصدقاء اختلفا حول (كومة سوداء) على قارعة الطريق. فقال الاول: انه طائر فقال الثاني: (الشخصية الدوغماتية بحسب روكيش) انها عنزة؟ فقال الاول: دعني اثبت لك انه طائر وليست عنزة فاقتربا من تلك (الكومة السوداء) فاذا هو طائر يحلق في السماء فقال الثاني: انا لم اقتنع حتى هذه اللحظة بانه طائر لذا فهي (عنزة ولو طارت)؟