يبحث المفكرون عن عالم مثالي، ولو أنهم تأملوا مناسك الحج لوجدوا هذا العالم المثالى هناك، حيث يتجرد الإنسان من الحقد والضغائن، ويصير قلبه أبيض مثل ثيابه البيضاء.. في هذا المقال يصور لنا الكاتب متعة الإنسان في الأراضي المقدسة، حيث ينسى المسلمون ما يفرقهم ويتجهون إلى ما يوحدهم. هل هي تلك اللحظات الكاملة التي يتحدث عنها بعض علماء الصوفية.. أم أنها لحظة الانفصال الكلي عما هو كائن.. انعتاق تام عن منغصات الدنيا وعذاباتها.. وآلامها.. وحتى ان شئت افراحها. هكذا رجل ابيض في يوم أبيض - بدون مشاكل - او هموم ولا يحتلك.. ولا يشغلك احد.. ادرت ظهرك للدنيا بكاملها فلم تعد تسمع الاصوتا واحدا.. ونداء واحدا.. وتخلصت من كل ما تراه وما تسمعه. لحظة الخلاص هذه هل جربتها؟ وهل غادرت تلك الكهوف المعتمة المليئة بالأحقاد والضغائن.. والعقارب والحشرات التي تلسع وتدمي جسدك وعقلك؟ هل فكرت في الهروب من سجنك الاختياري واختراق تلك الجدران المرتفعة التي تحاصرك؟ هل ارتفعت الى أعلى لتسقط كل الحواجز وتصل الى السماء الأرحب والأوسع؟ دع كل انهار الدم والضغينة والانتقام وأطفىء كل لهب النار واستعذ بالله من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس.. وأخرج طليقا معافى الى رحاب الله.. وقف بين يديه.. خاشعا.. ساجدا.. ساكنا مطمئنا لرحمة الله وعفوه وغفرانه. بين الحطيم وزمزم بين الكعبة والمقام.. وفي تلك الرحاب الطاهرة ستعرف كم هي الدنيا صغيرة.. والمسافة بينك وبين يومك الأخير أقرب من حبل الوريد.. ولا شيء يبقى.. لا المال ولا الجاه.. ولا البنون. سترى امامك وحولك وخلفك كل هذه الجموع بردائها الواحد وصوتها الواحد.. تتجه الى ربها الواحد الأحد.. تنشد رحمته وغفرانه. هنا في اطهر بقعة في الأرض سيقودك قلبك الخاشع المؤمن.. الى تلك اللحظات الكاملة لحظات الخلاص من ادران الدنيا واوجاعها.. ومتاعبها.. وستقف بك نفسك المؤمنة المطمئنة على ابواب الرحمة.. وستهتف كل جوارحك واحاسيسك.. لبيك اللهم لبيك.. لا شريك لك في حكمك وقضائك.. ولا في رحمتك ومغفرتك.. ولا في اجرك وثوابك أنت ربي وخالقي الذي لا ند لك. هنا حيث يتحد الناس كبيرهم وصغيرهم ماذا يمكن ان يبقى لك ولهم.. غير رحمة الله وغفرانه. وعلى صعيد عرفات وعلى ثراه الطاهر.. تأمل ذلك التراب الذي تقف عليه مع كل الناس.. واعرف انك تراب عائد الى التراب ولكل اجل كتاب.. ولست بمالك ناجيا من الموت ولا مؤخرا اجلك لحظة واحدة. تأمل كم هم من وقفوا قبلك على هذا الثرى الطاهر ورحلوا عن دنيانا.. بخيرهم وشرهم.. فمنهم من ظلم وأستبد.. ومنهم من استكبر وعتى فى الأرض.. ومنهم من افسد البلاد والعباد. ومنهم من استقام وعدل ونهى النفس عن الهوى.. وخاف مقام ربه يوم الحساب ولكل نفس ما كسبت. في يوم عرفة الذي يقف فيه الناس متحدين في اهدافهم وفي دعائهم.. وفي رغبتهم في غفران وعفو ربهم جل وعلا. في يوم الحج الأعظم حيث يتساوى الناس في طلبهم الرحمة من الله ترى هل يرحم بعضهم بعضا فلا يظلم احد احدا.. ولا يبطش القوي بالضعيف ولا الغنى بالفقير.. وهل يتحد المسلمون في اهدافهم وغاياتهم.. ورفع الظلم عن بلادهم.. ويسود فيه صالح المجموع على مصالح الفرد.. وتخلص النيات ويختفي المكر والكذب والنفاق.. ويعمل الجميع على رخاء بلدانهم وعزتها وكرامتها وينبذون خلافاتهم ويعيشون في سلام.. كما اتحدوا في حجهم على ارض السلام.. نسأل الله أن يعم السلام كل ارض المسلمين.. انه سميع مجيب.