ربما تأخذنا مشاغل الحياة فلا نشعر بركض الأيام من بين أيدينا وهي تطوي صفحات أعمارنا واحده تلو الأخرى، وربما ألهانا التكاثر وجمع الأموال وفتن الدنيا الزائلة عن الانتباه لتسارع الزمان وتسابقنا نحو المآل الأخير في دور رتبه الله تعالى وفقًا لحكمته وقدرته وسابق علمه، ولكن البارئ العادل -في الوقت ذاته- قد أوجد لنا مفاصل مهمة في مسيرة حياتنا ترغمنا على التوقف عن المسير في كل ما انشغلنا به، عائدين إلى التأمل في قدرته تعالى وحكمته في إيجاد تلك المفاصل والغاية منها، ولعل من أعظمها موسم الحج العظيم بما يحتويه من مشاهد عظيمة تقشعر لها أبدان الصالحين والصادقين، فيُدركون أن الدنيا لا محالة زائلة، وأن المستقر لن يكون إلا في دار الخلود، فإما نعيم مقيم، وإما جحيم مقيم، وفي كلاهما لا يظلم الله أحدًا، فبقدر ما أحسنت ستجد، وبقدر ما أسأت ستتذوق العذاب.. "ومن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره". إن مشهد الحج يُعبِّر بوضوح عن عظم المولى جل وعلا، فحين يُؤذِّن للناس بالحج، يأتون رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا الله في أيام معدودات. فها هي وفود الحجيج قد جاءت ملبية نداء رب الأرباب، وتركت وراءها المال والبنون زينة الحياة الدنيا، متجردة من أي شيء إلا التوجه لله وحده وطلب ما عنده من رحمة وصفح وغفران، ومن يُوفّقه الله في حج لا يرفث فيه ولا يفسق؛ فإنه سيعود من مكة الطاهرة كيوم ولدته أمه، نظيفًا من الذنوب ورجسها، والسيئات وكدرها، طاهر القلب والبدن، فقد عاد من ضيافة رب كريم خالق الناس من تراب، ففاز بوافر كرمه وعفوه، فإن شاء واصل حياته نظيفًا طاهر السريرة، وإلا فلن تغني عنه حجته شيئًا، وقد صار كمن نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا. يا إلهي! ما أعظم مشهد المسلمين وهم يتنقّلون بين المشاعر بلباس الإحرام، لا يميزهم غير التقوى، غنيّهم وفقيرهم، أسودهم وأبيضهم، رئيسهم ومرؤوسهم، كلهم يُنادون بصوت واحد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك".. جئناك يا الله مُلبِّين مُكبِّرين مُهلِّلين، مُوحِّدين لك وحدك لا شريك لك أبدًا، ونحن عبادك لا نريد غير الغفران والصفح عما سلف وكان. ما أعظم مشهدهم يوم عرفة حين يكتسي الجبل بياضًا بإحرامات الحج كبياض قلوبهم وصفاء نواياهم وسمو أهدافهم وتطلعاتهم. إن موسم الحج العظيم مناسبة لا يجب أن تعبر بنا ونحن في غفلة لاهون، بل علينا التوقف عندها، واستعراض شريط حياتنا، وماذا قدمنا مقابل ما وهبنا الله تعالى من فيض نعيمه وعطائه. ولا يمكن لعاقل نزيه أن يكتب عن الحج ويتجاهل ما تقوم به بلادنا من جهود سنوية متواصلة، كلها تهدف إلى راحة ضيوف الرحمن، الذين هم ضيوفنا وعلينا التكاتف جميعًا من أجل المحافظة على أمنهم وراحتهم، وانتهاء هذا الموسم العظيم بنجاح إن شاء الله. حفظ الله بلادنا من فتن الداخل والخارج، وحماها من كل سوء ومكروه. وكل عام وأنتم بخير.