كلمة واحدة يمكن أن تصف الوضع في مدينة الفلوجة العراقية: الغموض. ففي عصر أصبح فيه الخبر المصور مرادفا للمصداقية فليس من الممكن تجاهل الحظر المشدد الذي يفرضه الامريكيون على التغطية الاعلامية المصورة للاحداث في مدينة الفلوجة. ففي مطلع الشهر الجاري منح رئيس الحكومة العراقية المؤقتة أياد علاوي الضوء الاخضر للقوات الامريكية لاقتحام المدينة في حملة لتعقب المقاتلين وتحديدا المتشدد الاردني أبو مصعب الزرقاوي وغيره ممن اتخذوا المدينة معقلا لهم.وعلى مدى نحو أسبوعين شهدت الفلوجة معارك ضارية بين القوات الامريكية وعناصر الحرس الوطني العراقي من جهة والمقاتلين من جهة أخرى ولكن غيب الامريكيون طرفا هاما هو عدسة الكاميرا. ونتيجة لهذا الغياب لم يعد يعرف العالم ما ذا يحدث داخل هذه المدينة التي تقصفها الطائرات الامريكية ليلا ونهارا وتصب مدافع دبابات المارينز نيرانها عليهم عشوائيا. وظهر نتيجة لذلك نوع من التقارير من العسكريين المتحاربين يعلن كل طرف فيها سيطرته على الاوضاع في المدينة وإلحاقه الهزيمة بالعدو. ومع اختلاف طبيعة هذه التقارير فإن السمة الغالبة عليها كانت المبالغة والبعد عن المصداقية. فمن معسكر المقاومة كانت التقارير التي تنشر على مواقع جماعات المقاومة وتتداولها المنتديات العراقية على الانترنت تؤكد أن المقاومة قتلت المئات من الجنود الامريكيين وجنود الحرس الوطني وتنفي سيطرتهم على المدينة وتؤكد أن اليد العليا في المدينة ما زالت لها. ومن ناحية أخرى اتجهت التقارير الامريكية إلى التركيز على الخسائر التي ألحقتها القوات الامريكية بالمقاتلين مع التقليل من أهمية المقاومة والابتعاد عن تناول الاساليب التي تتبعها القوات في المدينة وتقليل خسائر القوات الامريكية. فقبل أسبوع صرح اللفتنانت جنرال جون ساتلر قائد قوات مشاة البحرية لشبكة (سي.إن.إن) الاخبارية بأن القوات الامريكيةوالعراقية كسرت شوكة القوات المقاومة في الفلوجة قائلا إن الجنود الامريكيين حصدوا ما بين ألف وألفي مقاتل واعتقلوا أكثر من ألف آخرين. ولعل ذلك يرجع إلى أن التقارير الاعلامية الامريكية لشبكات مثل سي.إن.إن وفوكس نيوز وإن.بي.سي. تخضع لمراقبة عسكرية أمريكية كون مراسليها يرافقون القوات الامريكية ويتمتعون بحمايتهم. ويتفق خليل فهمي الاعلامي في الخدمة العربية لهيئة الاذاعة البريطانية (بي.بي.سي.) مع هذا الرأي حيث يرى أن التغطية الاعلامية للاحداث في مدينة الفلوجة جاءت غالبا من صحفيين غربيين مرافقين للقوات الامريكية واتسمت هذه التغطية بالتركيز على ما أنجزته القوات الامريكية بحيث لم يستطع المشاهد مشاهدة صور المقاومة وعملياتها. ولكن هذا لم يمنع مصورا من شبكة (إن.بي.سي) الامريكية كان يرافق الوحدات الامريكية من تصوير مشهد يظهر فيه جندي أمريكي وهو يطلق النار على رجل عراقي جريح وأعزل على ما يبدو ويرديه قتيلا في أحد مساجد المدينة. وعلى الرغم من أن هذا التقرير الذي أفلت من الرقابة العسكرية الامريكية حظي بمساحة إعلامية كبيرة فإن هذا لا ينفي حقيقة أنه الاستثناء وليس القاعدة لكن ايضا لا احد يعرف كم مثل هذا الرجل الجريح من النساء والاطفال قتلوا بدم بارد. وتبرز أهمية التقرير التلفزيوني في ظل غياب قناة (الجزيرة) الاخبارية عن المواقع الساخنة في العراق بعد أن أصدرت الحكومة العراقية قرارا بإغلاق مكاتبها في جميع أنحاء البلاد. فالجزيرة التي تميزت بتقاريرها المصورة الشاملة تعمد بشكل مستمر إلى الاعتذار لمشاهديها عن عدم تغطية أحداث الفلوجة بالتفصيل المنتظر نظرا لاغلاق مكاتبها في العراق. ويتبدى الفرق شاسعا بين الوضع الراهن وبين ما كان عليه الامر قبل عدة أشهر. فالتقارير المصورة التي كانت تبثها (الجزيرة) من الفلوجة من موفدها الاعلامي البارز أحمد منصور كانت هي الرد الوحيد على اتهامات الجنرال مارك كيميت للجزيرة بتزييف الاخبار. ويرى حسين عبد الغني مدير مكتب قناة (الجزيرة) في القاهرة أن وجود الاعلام في مناطق الاحداث أو الحروب يضع عقبة أمام خرق القانون الدولي وانتهاكات حقوق الانسان التي قد تقع في تلك المناطق. وقال عبد الغني لوكالة الانباء الالمانية إن وجود (الجزيرة) في تغطية أحداث الفلوجة السابقة ردع القوات الامريكية عن انتهاك حقوق الانسان وهدم المساجد وغيرها من الممارسات التي اتسمت باللجوء المفرط للقوة. وقال عبد الغني أن غياب (الجزيرة) عن التغطية الاعلامية في الفلوجة (وفي العراق) أكد على مصداقيتها وليس العكس في إشارة إلى قرار الحكومة العراقية بإغلاق مكاتبها. وأوضح ردا على سؤال بشأن الدوافع من وراء إبعاد وسائل الاعلام مثل (الجزيرة) وغيرها عن تغطية وقائع المعارك في الفلوجة أن السلوك الذي لمسناه في هذه الحرب ككل سلوك يتسم بحجب المعلومات وطمس الحقائق مؤكدا أن أبلغ دليل على تطور العملية الديمقراطية في العراق هو السماح لوسائل الاعلام بتغطية ما يحدث في البلاد بحيادية وأن تتقبل الحكومة العراقية نتيجة هذه التغطية. أما خليل فهمي فيرى أن غياب التغطية الاعلامية المصورة عن الفلوجة يرجع إلى أن مثل هذه التغطية تخضع لقواعد عسكرية .. ويحكمها أمن وسلامة الصحفي التي صار هناك اهتمام بها أكثر من ذي قبل. ولكنه يشير أيضا إلى احتمال إبعاد الجهات الاعلامية عن المدينة بغرض عدم تعريض الممارسات المفرطة في استخدامها للقوة للانتقادات. ويرى فهمي أن الاعلام لم يمنح الفرصة الكاملة (لتغطية الاحداث في الفلوجة) مع توفير الحماية له موضحا أن وسائل الاعلام قد تتهم فيما بعد بفشلها في تغطية الاحداث في المدينةالعراقية والاعتماد على ما بلغت به لا على التقرير التلفزيوني مما يعرض مصداقيتها على المدى البعيد للخطر. أما عبد الغني فيؤكد أن مسئولية التصدي لمثل هذا الابعاد عن تغطية الاحداث لا تقع على عاتق وسائل الاعلام فحسب وإنما على عاتق الرأي العام الدولي ومنظمات حقوق الانسان وكل من يرى أن له الحق في معرفة حقيقة ما يجري.