ياسر عرفات الذي يعتبره أعضاء حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) رمزا لنضالهم طرد من الأردنولبنان وعاش في تونس وتنقل بين الدبلوماسية والكفاح المسلح وحوصر في رام الله ويقضي نحبه في باريس بعد أن طار الى مختلف عواصم العالم مسجلا رقما قياسيا في امتطاء الجو بحثا عن حل أو ملجأ. قربته الولايات المتحدة واسرائيل وأبعدتاه وربما حاولتا اغتياله في يوم ما .. لكنه نجا على أية حال. أرضى واشنطن بانتهاجه الدبلوماسية طريقا لحل صراع دموي معقد وأغضبها في عهد الرئيس بل كلنتون لأنه رفض التوقيع على إلغاء حقوق اللاجئين والقدس، كما تشير مصادره. وتجاهله كليا الرئيس جورج بوش كما أعلن رئيس الوزراء الاسرائيلي ارئيل شارون الحرب عليه. وكما أرضى أيضا الكثير من رفاقه في الثورة والدبلوماسية أغضب العديدين منهم. ويمثل غياب عرفات انتهاء حقبة زمنية بالنسبة للشرق الأوسط والحركة الوطنية الفلسطينية على حد سواء. ولن يكون لدى أي من المسؤولين الفلسطينيين القدرة على ملء الفراغ الذي يتركه موت محمد عبد الرحمن القدوة كما يرد في شهادة ميلاده. ولد عرفات في 24 آب أغسطس من العام 1929 في القاهرة في مصر. لكن عرفات كان يقول أنه يولد في القدس. ولد في كنف أسرة ميسورة الحال لأب تاجر وتوفيت والدته التي تربطها صلة القرابة مع مفتي القدس في حينه، الحاج أمين الحسيني، حين كان في الرابعة من عمره. درس عرفات الهندسة المدنية في جامعة القاهرة وشارك في دورات دراسية عن تاريخ اليهود تعرف من خلالها كتابات صهيونية مثل تلك التي خطها تيئودور هرتسل. وتشير مصادر مختلفة الى أنه انضم خلال فترة دراسته إلى جماعة الإخوان المسلمين وإلى نقابة الطلبة الفلسطينيين التي تولى رئاستها بين الأعوام 1952-1956. وحسب ما قاله عرفات فقد سعى إلى محاربة إسرائيل منذ قيامها إلا أن الجيوش العربية رفضت ضمه إلى صفوفها. وتجند عرفات في العام 1956 للجيش المصري وشارك في حرب السويس في العام نفسه. وسافر بعد الحرب إلى الكويت حيث بدأ يعمل مهندسا وأقام شركة خاصة به وأسس هناك حركة فتح التي تحولت فيما بعد إلى الذراع العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست عام 1964. وبدأت الحركة بقيادة عرفات عملياتها المسلحة ضد إسرائيل في العام 1965. وقاد عرفات قواته في العام 1968 للدفاع عن بلدة الكرامة الأردنية أمام قوات إسرائيلية. وفي العام 1969 عين رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية التي أسستها جامعة الدول العربية في العام 1965. ومن الأردن أدار قادة الفدائيين الفلسطينيين العمليات ضد اسرائيل، لكن هذا كان نذير خطر على مستقبل المملكة الأردنية الهاشمية فرأى الملك حسين بن طلال أن نشاط منظمة التحرير الفلسطينية ينبغي أن يضع حدا له، خاصة وأنه كان يحكم الضفة الغربية وكان مازال ملكا على الفلسطينيين فيها. وفي أيلول سبتمبر من العام 1970 (أيلول الأسود) تمكن الملك حسين بعد معارك ضارية من طرد التنظيمات الفلسطينية من المملكة الهاشمية. وفي العام 1971 عين عرفات قائدا أعلى للقوات الثورية الفلسطينية. في العام 1973 تسلم (أبو عمار) رئاسة القسم السياسي في منظمة التحرير الفلسطينية. وبدأ عرفات في أعقاب ذلك بصب جهود أكبر في الاتجاهات السياسية والابتعاد شيئا فشيئا عن الكفاح المسلح. وكان عرفات أول مندوب يتحدث باسم منظمة غير رسمية أمام الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة في العام 1974. وفي العام نفسه منحت منظمة التحرير الفلسطينية مكانة مراقب في الأمم المتحدة. وفي آب أغسطس من العام 1982 وفي أعقاب الحرب في لبنان اضطر عرفات إلى إخلاء مقار منظمة التحرير من بيروت وتأسيس مقر جديد لها في تونس. وانشغل عرفات خلال السنوات التي عاشها في تونس بالحفاظ على وحدة منظمة التحرير الفلسطينية. وفي العام 1987 انتقل عرفات إلى بغداد وأعلن في العام 1988 عن إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومثل عرفات بعد ذلك بشهر واحد أمام الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة التي عقدت اجتماعها في جنيف بعدما رفضت الولايات المتحدة دخول عرفات إلى أراضيها. وأعلن عرفات من خلال كلمته أمام الجمعية عن لجوئه إلى السبل السلمية من أجل حل القضية الفلسطينية. وكلف المجلس المركزي الفلسطيني في الثاني من نيسان أبريل من العام 1989 عرفات برئاسة دولة فلسطين. وعاش (الختيار) أعزب وظل طوال السنين يقول إنه متزوج من القضية الفلسطينية من قبيل الكناية، لكنه في العام 1991 تزوج من سهى الطويل التي تنتمي إلى عائلة مسيحية بارزة، وكان عمره آنذاك 62 عاما. وأنجب (الختيار) ابنته الوحيدة زهوة. وكان قراره بالزواج جاء بعد تداعيات كارثة غزو الكويت التي أقدم عليها الرئيس العراقي صدام حسين. فقد تضرر موقف منظمة التحرير الفلسطينية والفلسطينيين بشكل عام بعدما اعتبر عرفات في جانب الرئيس العراقي السابق صدام حسين، خلال حرب الخليج في العام 1990. واعترف عرفات في العام نفسه رسميا بحق إسرائيل في القيام كدولة وهو ما أتاح البدء في إجراء حوار بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية والذي انتهى بتوقيع اتفاقيات أوسلو في تشرين الأول أوكتوبر من العام 1993. وينص اتفاق أوسلو على منح الفلسطينيين حكما ذاتيا في الضفة الغربية وقطاع غزة مدة خمس سنوات. في عام 1994 حاز عرفات مع إسحاق رابين وشمعون بيرس على جائزة نوبل للسلام. وبدأ عرفات في العام نفسه إدارة شؤون الحكم الذاتي. في العام 1996 تأسس المجلس التشريعي الفلسطيني وانتخب عرفات رئيسًا له. وشهدت العلاقات الفلسطينية والإسرائيلية حالات مد وجزر وصلت أوجها في قمة كامب ديفيد التي عقدها الرئيس الأمريكي في حينه بل كلنتون بمشاركة عرفات ورئيس الحكومة الإسرائيلي، يهودا باراك في تموز يوليو 2000 ولم تتكلل جهود هذه القمة بالنجاح وتبعتها زيارة أرئيل شارون لتندلع فور ذلك أحداث انتفاضة الأقصى في أيلول سبتمبر 2000 (الانتقاضة الأولى اندلعت في ديسمبر 1987). تقلد شارون منصب رئيس الحكومة الإسرائيلي في العام 2001 وطالما أعلن أنه لن يصافح عرفات مهما حدث ولن يجتمع معه. وأرسل شارون مندوبين عنه إلى عرفات، بينهم ابنه عُمري، لكن مع تزايد العمليات في إسرائيل وتصاعد الأوضاع في المناطق الفلسطينية أصبحت الاتصالات بين الطرفين نادرة. في كانون أول ديسمبر من العام 2001 قررت الحكومة الإسرائيلية اعتبار عرفات غير ذي صلة. وبدأت تتزايد الأصوات الإسرائيلية المنادية بطرد عرفات من السلطة الفلسطينية. وحاصر الجيش الإسرائيلي عرفات في مقره في رام الله، لكن الفلسطينيين والدول العربية والغربية لم تتبن الموقف الإسرائيلي ولم تقطع علاقاتها مع عرفات وبقيت تعتبره قائدا للفلسطينيين. سعت إدارة الرئيس بوش بدورها إلى الوساطة بين طرفي النزاع في عدد من المبادرات السياسية التي تمثلت بإرسال رئيس الCIA، جورج تنيت، وإرسال السناتور ميتشل وغير ذلك. وبلور الرئيس بوش خطة أمريكية تسعى لوقف العنف أطلق عليها اسم (خارطة الطريق). ووصلت الاتصالات الإسرائيلية الفلسطينية بوساطة أمريكية أوجها في القمة التي عقدت في العقبة بحضور الرئيس بوش وأرئيل شارون، ورئيس الوزراء الفلسطيني في حينه محمود عباس. ولم تحقق قمة العقبة أي نتائج تذكر. واتهمت إسرائيل عرفات بأنه سعى لإضعاف عباس الذي استقال لاحقا واستبدل بأحمد قريع. وفي أيلول سبتمبر من العام 2003 قرر المجلس السياسي الأمني الإسرائيلي طرد عرفات في أعقاب وقوع عمليتين فدائيتين، لكن القرار لم يخرج إلى حيز التنفيذ وبالتأكيد لشيء في نفس يعقوب. وصباح 29 تشرين أول أكتوبر غادر أبو عمار مريضا هذه المرة، المقاطعة الرئاسية وهي مقره المدمر في رام الله، متوجها الى باريس وهناك نقل إلى مستشفى بيرسي في ضاحية كلامار الباريسية ليواجه آخر لحظات العمر القاسية.