منذ تأملات بعيدة, و أنا أحاول أن أجد اللحظة الهاربة, التي تتبلور عليها معادلة الإبداع الشعري, وهذه اللحظة المنشودة تقع في منطقة بوهيمية متحركة, بين الإطلاق التام للمشاعر المكبوتة, وبين مقتضيات الشعر وتقنياته, والتي غالبا ً ما لا تتمتع بالديناميكية المرنة, حتى أنني عند معالجة النص الشعري أقف حائرا ً بين جعل المشاعر والأحاسيس والانفعالات تقود النص, وبين أن تكون تقنيات اللغة ومقتضيات الكتابة الشعرية هي سيدة الموقف, بحيث تأخذ من هذه المشاعر الهادرة ما يتناسب مع أحكامها, وتبقي ما لا يتواءم مع العمل الشعري مكبوتا داخل الروح, ليقوم بتأجيج مكامن العذاب, وهذه الانتقائية الخاضعة لهيمنة سمات العمل الشعري, تجعل أهداف الكتابة الشعرية, لا تتحقق كلها, خصوصا ً الهدف الرئيسي, والمتمثل في الخلاص من العذاب الداخلي, الناتج عن متاعب الحياة وعذاب الإنسان, الذي أجدني منسحباً إليه دائماً بدون أن يكون لي خيار الهرب من تأثيره, الذي يدفعني غالباً إلى مرحلة عدمية, أشعر أنها تآكل من سنوات عمري, لذلك أحاول أن ألجأ إلى اللعب في اللغة وتفكيكها ثم مزجها بكل متاعبي وأحاسيسي وانفعالاتي, وبعد ذلك أعيد تركيبها في عمل شعري يعبر عن كل المتاعب وأصناف العذاب التي أعانيها, والتي تحيل حياتي إلى مأساة حقيقية, تعجز القصيدة عن استيعابها والتعبير عنها بدقة متناهية, بل أنني في كثير من الأحيان, أجد أن البحث عن المساحة المتاحة محاطة بمقتضيات الكتابة الشعرية المعقدة التي تجعلها أضيق من أن تستوعب كل البوح المراد التعبير عنه, نتيجة عدم وصولي للحظة الهاربة. قد يقول أحد العارفين بخبايا الشعر أنني أعاني فقدان التوهج الكافي, القادر على الوصول بنصي على اللحظة الهاربة, وقد يقول آخر انني مصاب بوهن في الشاعرية, وهذه التساؤلات لا أخجل منها, وكثيراً ما طرحتها على نفسي أثناء أحاديثي مع ذاتي بعد كل عمل شعري أقترفه, ولكن دعوني اطرح سؤالا مضادا وبالذات على من يكتبون الشعر ويعرفون منعرجاته وخفاياه وهو: عندما يقرأ أحدكم قصيدة كتبها قبل مدة كافية لإطفاء حالات الانبهار التي تصاحب ولادة النص الشعري, ويقارن بين النص كعمل فني وبين ما يطمح إليه أو يعتقد أنه قادر على الإتيان به وفق إمكاناته الشعرية, ألا يجد أنه كان بالإمكان أن يكون النص أكثر إشراقا َ وإبهارا ً مما هو عليه .؟ كل شاعر صادق مع نفسه, ولم يعتد أن يقيم لذاته حفلة تصفيق أجوف كلما قرأ نصوصه وراجعها, يدرك أنه كان يحوم حول النقطة الهاربة بين تضاربات مقتضيات الشعر أثناء هدير اللغة وبين فوران المشاعر وتداعيات الذكريات وتفجر منابع الألم. وأن هذه اللحظة الهاربة ذات الملامح البوهيمية المتحركة أصعب من أن يقبض عليها, وأن البحث عنها سيستهلك العمر كله, وهذا هو جمال الشعر وسر سحره الغامض, أما من يعتقد أنه ولد ويده قابضة على هذه اللحظة الهاربة فهو يجهل الشعر ويجهل الإنسانية بكل أبعادها, بل أنه لم يتعرف حتى على ذاته.