لم يرتبط تاريخ اليمن السحيق باسم مثلما ارتبط باسم بلقيس ملكة سبأ التي ورد ذكرها في الكتب السماوية، والتي حيكت حولها الأساطير، والحكايات والقصص، لتتبدى من خلال الكم المتراكم عبر القرون من الصور والتداعيات والأخيلة العالقة في الوجدان الشعبي وأعمال العديد من الفنانين رمزا تتواشج فيه معالم الجمال الفاتن، والرخاء العميم، والثروة الوفيرة والقوة المنيعة. "ملكة سبأ: كنوز من اليمن القديم" هو عنوان المعرض الذي افتتح في المتحف البريطاني في 9 يونيو/ حزيران ويستمر حتى 13 تشرين الأول/أكتوبر المقبل. ويسعى المعرض من خلال تشكيلة من المعروضات الأثرية والأعمال الفنية، إلى تسليط الضوء على كنوز من تراث اليمن القديم تستحضر تاريخا بائدا ولمحات من تفاصيل الحياة اليومية في جنوبي الجزيرة العربية. وقد تم إحضار معظم هذه المعروضات من اليمن بينما جُمع القسم المتبقي منها من مقتنيات المتحف البريطاني نفسه ومقتنيات خاصة أخرى. ويقول منظم المعرض سانت جون سيمبسون، من قسم الشرق الأدنى القديم في المتحف البريطاني، إن منظمي المعرض حرصوا على تقديم أعمال فنية لا تعكس فقط قصة بلقيس في الموروث الديني والفلكلوري وتصور كيفية تطورها، ولكنها تسعى أيضا إلى استكشاف التاريخ القديم لجنوب الجزيرة العربية من خلال الاكتشافات الأثرية التي تدل على وجود حضارة غنية فيها منذ العصر البرونزي. بلقيس كرمز جمالي لدى دخول المعرض، يشعر المرء بالحضور الطاغي لبلقيس كرمز للفتنة والجمال من خلال لوحات تحكي بلغتها التصويرية المشهدية قصة بلقيس ولقائها الشهير بسليمان الملك، وتنم عن حرص على تقديم أعمال فنية تعكس التباينات في قصة بلقيس لدى الأديان السماوية الثلاثة. غير أن صورة بلقيس تجاوزت القصص الديني لتدخل في أحلام وخيالات الفنانين. لذا يقدم المعرض نماذج من صورة بلقيس في الفن الأوروبي في العصر الحديث، والقرن التاسع عشر، وعصر النهضة. وتطغى على هذه الأعمال رؤى إستشراقية لبلقيس ليس كرمز لجمال المرأة فحسب، بل كذروة الإغواء. ولعل ريشة إدوارد بوينتر، الفنان البريطاني من القرن التاسع عشر، تمثل أرقى تجليات هذه الرؤى. وتنبئ لوحات بوينتر المعروضة في المعرض عن حرص واضح على إبراز التفاصيل التاريخية والدقة المعمارية، معتمدا على ما كشفت عنه التنقيبات الأثرية في الشرق في أيامه. حمل الخناجر وبقدر ما يهتم المعرض بإبراز صورة بلقيس، فإن تفاصيل حضارة القسم الجنوبي من الجزيرة العربية تحتل حيزا واسعا من المعروضات التي تقدم نماذج من التماثيل والفخاريات والحلي التي كشفت عنها آخر الحفريات الأثرية في المنطقة. ويقول سيبسمون: "نحاول أن نروي قصة العصور السحيقة في اليمن عبر القصة الشهيرة عن لقاء سليمان بملكة سبأ". يد برونزية عليها نقوش فلا غرو إذا أن يأتي المعرض مترعا بقطع فنية، وأعمال يدوية شتى، ونقوش، وتماثيل، ومنحوتات، وإيقونات دينية، ومباخر، ومجوهرات ومسكوكات نقدية. بعض هذه المعروضات سبئي وبعضها من مناطق أخرى في جنوب الجزيرة العربية، مثل مجموعة من التماثيل المرمرية من أوسان، وهي مملكة قامت في المنطقة في القرون الأخيرة من الألف الثاني قبل الميلاد. واللافت في تماثيل الرجال المعروضة أنها تمثلهم وهم يتمنطقون بخناجر، ما يؤكد أن عادة حمل الخناجر هي عادة موغلة في القدم في اليمن. وتشي المعروضات بمؤثرات حضارية من مختلف الحضارات القديمة، بما فيها الحضارة المصرية، واليونانية، والرومانية، والفارسية والحبشية. أرض الطيب والبخور بيد أن تاريخ جنوب الجزيرة العربية لا يتجلى في معرض المتحف البريطاني من خلال المعروضات ذات المفردات البصرية التي تخاطب العين فحسب، بل ينساب أيضا إلى باقي الحواس، صدى موسيقى تصدح في أرجاء الغاليري وأريجا يفوح برائحة البخور، ما يوقع في النفس شعورا بسفر يطوي الزمن إلى ماض بعيد. مبخرة من حجر كلسي من القرن الثالث الميلاديوغني عن القول أن كنوز الماضي الساحر لليمن وجنوب شبه الجزيرة العربية ارتبطت ارتباطا وثيقا بتجارة البخور والعطور واللبان، المستخدمة في الطقوس الدينية، والمعابد، والقصور، فضلا عن بعض الاستخدامات الطبية. ويعتبر بعض المؤرخين أن زيارة بلقيس إلى سليمان كانت ذات دوافع تجارية، بهدف تسهيل حركة تجارة العطور والبخور من اليمن إلى بلاد الشام وفلسطين. وتشير بعض الصور المعروضة في المتحف إلى الدور الذي لعبه تدجين الجمل، الذي يرجع تاريخه إلى أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد، في ازدهار تجارة سبأ، وذلك بفضل قدرته على حمل الأثقال وتحمله للعطش ما يمكنه من قطع مسافات طويلة في الصحراء. مومياوات يمنية وكما اهتم المعرض بعرض تفاصيل الحياة في شبه الجزيرة العربية، فإنه اهتم أيضا بعرض تفاصيل الموت، والمعتقدات الدينية في شأن الموت والحياة الآخرة، وذلك من خلال مجموعة من النصب الجنائزية، وشواهد القبور وصور لمدافن قديمة. ولعل أبرز ما في تفاصيل الموت في اليمن القديم هو المومياوات التي عثر عليها مؤخرا في مغارات جبلية على مقربة من صنعاء استخدمها اليمنيون القدماء كمقابر. نصب لقبر يبدو عليه تمثال لرأس المرأة المدفونة ويفيد سيمبسون بأن المومياوات التي عثر عليها في اليمن تعطي دليلا على تقدّم في فن التحنيط لدى اليمنيين القدماء إلى درجة توازي تلك التي عرفها المصريون القدماء، وبالتالي فإن اليمن هي المكان الثاني في العالم بعد مصر يعثر علماء الآثار فيها على مومياوات محنطة. يبقى أن نشير إلى أن المعرض ترافقه تظاهرة ثقافية حيث تقام على هامشه فعاليات شتى تسلط مزيدا من الضوء على التاريخ القديم لجنوب الجزيرة العربية من خلال سلسلة محاضرات، وورشات عمل خاصة، وحفلات موسيقية، وبرامج أخرى. ويعرب سيبسمون عن اعتقاده بأن الكم الكبير من القصص والأساطير الذي يكتنف تاريخ اليمن "له أساس من الصحة". بيد أن التحدي، يتابع سيمبسون، يتجسد في الكشف عن مكنونات هذا الأساس حيث أن أكثر الموروثات الفلكلورية ثراء تبرز عندما يكون لديك أقل قدر من الأدلة التاريخية. معرض (ملكة سبأ: كنوز من اليمن القديم) محاولة جادة لمواجهة هذا التحدي وسبر أغوار تاريخ اليمن القديم من خلال الرومانسية الساحرة لقصة بلقيس. "عن BBC" صورة لبلقيس مع الهدهد في مخطوط فارسي من عام 1590