عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - انه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كلكم راع ومسئول عن رعيته, فالامام راع ومسئول عن رعيته, والرجل في اهله راع وهو مسئول عن رعيته, والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها, والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته, فكلكم راع, وكلكم مسئول عن رعيته). فالاسلام جعل من الامانة معنى واسعا, وهو ما يشير اليه هذا الحديث الشريف. وقد تكرر ذكر الامانة في القرآن الكريم, ومن الآيات التي ورد فيها ذكرها: قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن امانته, وليتق الله ربه) والآية في الرهن, فالشيء المرهون امانة. وقوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا اماناتكم وأنتم تعلمون) وهذه الآية شاملة لجميع انواع الامانات. لقد اشتهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالامانة, حتى عرف من قبل النبوة بالامين يقول ابن اسحاق: (ان القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها - اي: الكعبة - كل قبيلة تجمع على حدة, ثم بنوها حتى بلغ البنيان - موضع الركن - الحجر الاسود - فاختصموا فيه, كل قبيلة تريد ان ترفعه الى موضعه دون الاخرى, حتى تحاوروا وتخالفوا واعدوا للقتال. فمكثت قريش على هذا اربع ليال او خمسا, ثم انهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا. فزغم بعض اهل الرواية ان ابا امية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم, وكان عامئذ اسن قريش كلها قال: يا معشر قريش, اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه اول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم فيه, ففعلوا, فكان اول داخل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأوه قالوا: هذا الأمين, رضينا, هذا محمد. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امينا, وحث اتباعه على هذا الخلق العظيم, فقال لهم: (لا ايمان لمن لا امانة له, ولا دين لمن لا صلاة له, وموضع الصلاة من الدين, كموضع الرأس من الجسد). ان من صور الامانة الودائع: وهي اشهر انواع الامانة حتى ان العامة لا تفهم من الامانة الا الوديعة, وقد حرص عليها الاسلام, فعن ابي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اخذ اموال الناس يريد اداءها, ادى الله عنه, ومن اخذها يريد اتلافها, اتلفه الله). وقال عليه الصلاة والسلام: (اد الامانة الى من ائتمنك, ولا تخن من خانك). وقال عليه الصلاة والسلام: (لن تزال امتي على الفطرة, ما لم يتخذوا الامانة مغنما, والزكاة مغرما). يعتبر الاسلام المناصب والوظائف العامة امانات ايضا يجب ان لا يعين فيها الا الجدير بها, وان لا يختار لها الا من تؤهله قدراته العلمية والخلقية لشغلها. عن ابي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يحدث القوم جاءه اعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث. فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال, وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى اذا قضى حديثه قال: اين اراه السائل عن الساعة؟ قال: ها انا يا رسول الله, قال: فاذا ضيعت الامانة, فانتظر الساعة. قال: كيف اضاعتها؟ قال: اذا وسد الامر الى غير اهله, فانتظر الساعة. وعن ابي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله, الا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي. ثم قال: (يا ابا ذر, انك ضعيف, وانها امانة, وانها يوم القيامة خزي وندامة الا من اخذها بحقها, وادى الذي عليه فيها). وقال عليه الصلاة والسلام: (من استعمل رجلا على عصابة, وفيهم من هو ارضى لله منه, فقد خان الله ورسوله والمؤمنين). وفي حديث آخر: (من ولى من امر المسلمين شيئا, فأمر عليهم احدا محاباة, فعليه لعنة الله, لا يقبل الله منه صرفا, ولا عدلا, حتى يدخله جهنم). واذا كان اختيار العامل امانة, فان اداء العمل نفسه امانة, وعلى العامل او الموظف ان لا يستغل منصبه استغلالا سيئا, فيجني من ورائه ما لا يحل له فضلا عن اقاربه وذويه, قال عليه الصلاة والسلام: (من استعملناه على عمل, فرزقناه رزقا, فما اخذ بعد ذلك فهو غلول) اي: حرام. وعن ابي حميد الساعدي ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل عاملا, فجاءه العامل حين فرغ من عمله فقال: يا رسول الله, هذا لكم, وهذا اهدى لي. فقال له: أفلا قعدت في بيت ابيك وامك, فنظرت ايهدى لك ام لا؟ ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية بعد الصلاة, فتشهد, واثنى على الله بما هو اهله, ثم قال: اما بعد, فما بال العامل نستعمله, فيأتينا فيقول: هذا من عملكم, وهذا اهدي لي؟ افلا قعد في بيت ابيه وامه, فنظر هل يهدى له ام لا؟ فوالذي نفس محمد بيده, لا يغل احدكم منها شيئا الا جاء به يوم القيامة, يحمله على عنقه: ان كان بعيرا جاء به له رغاء, وان كانت بقرة جاء بها لها خوار, وان كانت شاة جاء بها تيعر, فقد بلغت. هكذا يهتم الرسول اهتماما بالغا بهذه الواقعة لخطورتها على المجتمع المسلم. اما اذا ادى العامل عمله بأمانة. فان له الثواب العظيم, يقول عليه الصلاة والسلام: (الخازن الامين الذي يؤدي ما امر به, طيبة نفسه, احد المتصدقين). ان الاسرار تشمل ما يدور بين الناس, وما يقال داخل الاجتماعات المختلفة, فالسر امانة لايجوز ان يطلع عليه الا من له حق الاطلاع عليه. عن ابي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من سمع من رجل حديثا, لا يشتهي ان يذكر عنه, فهو امانة, وان لم يستكتمه). وعن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا حدث الرجل بالحديث, ثم التفت. فهي امانة). والمجالس تكون امانات اذا كان ما يدور فيها لا يخالف شرع الله, اما اذا قيل فيها ما لا يتفق ودين الاسلام, فليست له حرمة, ولا احترام. عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (المجالس بالامانة الا ثلاث: سفك دم حرام, او فرج حرام, او اقتطاع مال بغير حق). وهذا اللون من الامانة يشمل ما يدور بين الزوجين من امور خاصة, فليس لاحدهما افشاؤها, لانها من ادق انواع الامانة التي يجب صيانتها. قال عليه الصلاة والسلام: (ان من اعظم الامانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي الى امرأته, وتفضي اليه, ثم ينشر سرها) فافشاء هذه الاسرار من اعظم خيانة الامانة. اذا عرض عليك اخ لك موضوعا, او مشروعا, وطلب منك الرأي والنصح, فاعلم ان رأيك امانة, وانك اذا اشرت عليه بغير الرأي الصحيح, فان ذلك خيانة للامانة. عن ابي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (المستشار مؤتمن). وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اذا استشار احدكم اخاه, فليشر عليه). وعن ابي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (من تقول علي ما لم اقل, فليتبوأ مقعده من النار, ومن استشاره اخوه المسلم, فاشار عليه بغير رشد, فقد خانه, ومن افتى فتيا بغير ثبت, فاثمه على من افتاه). هذه بعض صور الامانة في مفهوم الاسلام, نسأل الله ان يجعلنا من الذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون.